" خَدَعوها بِقَولِهِم
حَسناءُ
وَالغَواني يَغُرُّهُنَّ الثَناءُ
أَتُراها تَناسَت اسمِيَ لَمّا
كَثُرَت في غَرامِها الأَسماءُ "
"أحمد شوقي ، شاعر من مصر
"
أن أمور
الحكم والسياسة أشبه بقيادة ( سفينة ) في بحر دائم الهيجان ، أنك حين تقف على
الشاطئ قد لا تدرك خطورة البحر ، بل قد يغريك ارتياده متجاهلا و ربما جاهلا
لمجاهله وأغواره . بعد الثورة الشعبية في مصر ـ ولن يختلف الحال في باقي الأقطار
العربية ـ صار الجميع سياسيين و ثوار ، ولكن بعد أن نجحت الثورة ( مبدئيا ) .
في طريق
خروجنا من ( مطار القاهرة ) مع السائق الذي أعرفه منذ سنوات وجدته شخصا آخر ، كان
طوال الوقت ـ وحتى في الأيام التالية ـ يستمع إلى نشرة الأخبار عبر المذياع وهذا ليس من عادته ، ثم وجدته ـ و هو الشخص الذي لا يأبه بالسياسة وليس من أهل
الإقدام حتى في المواقف البسيطة ـ صار
ثوريا دفعة واحدة. لم يكن الوضع مناسبا لطرح أي أسئلة اللهم عن أحوال مصر و
والأوضاع ، فكان يجيب : ( الحمد لله كله تمام ) . ثم في اللقاءات التالية كان
الرجل لا ينفك يتحدث عن الاعتصام والثورة ، وهنا كان لابد من استيضاح الأمر فالرجل
مثل ما يقول المصريين ( مش بتاع سياسة ) ، وهنا اكتشفت أن الرجل ( لم يشارك ) ،
أنما كل ما فعله هو أنه زار ميدان التحرير في أحد الأيام الهادئة فيه فقط ثم غادر
.
وفي
أثناء وجودي قررنا زيارة ( ميدان التحرير ) أثناء استعداد المتظاهرين لجمعة مليونية كان ذلك
في صباح يوم الجمعة ، فكان الرجل متحمس ، لكنه حين رأى حشود المتظاهرين صار متوتر
ورفض حتى أن نقف أعلى الجسر لنشاهد ما يحدث . قلت في نفسي : أهذه روح ثائر ؟!!
وحتى حين كنت أستقل سيارة أجرة أخرى ، فإني أجد سائقيها بذات الإيقاع و الذي لم
أعهده : يستمعون للأخبار باستمرار عبر المذياع ، وكذلك يتحدث إليك أحدهم عن الثورة
ويقول : ( أننا سنفعل وسنفعل ، وسنحاصر
السفارة الفلانية و و و ) . حين تستمع لأحدهم تظن أنك أمام ( تشي جيفارا ) ، بينما هو حتى لا يدنو من ( ميدان
التحرير ) ناهيك عن الاعتصام فيه . حقا أنه أمر مضحكٌ مبكي . كل ثورة شعبية تضم :
·
شرفاء عقلاء .
·
ومتسلقون طامعون .
·
وغوغاء تخوض مع الخائضين .
·
والحلقة الأضعف من جميع هؤلاء هم الشرفاء العقلاء .
هذه نقطة
ـ علاوة على ملاحظتي لها حتى قبل سفري لمصر ـ أكدها لي بعض أساتذة علم الاجتماع في
مصر ، من أن أناس لا ناقة لهم ولا جمل في السياسة ولا في الشأن العام أصبحوا
يحاولوا الظهور بمظهر ( أبطال الثورة ) ، وفوقها ما أخبرنا به أحدهم أذا قال : أن
عدد من الشباب كان يحضر للميدان بالليل حيث تقام أماسي غنائية و تمثليات و تسليات
، فبدل قضائهم لوقتهم في القهاوي ـ كما المعتاد ـ صاروا يأتون للميدان ( أصل الجو
كان حلو هناك ) . طبعا هذا لا يعني أن
جميع من في الميدان هم من هذه الشاكلة أنما أوردت هذا الكلام لأظهر لأي مدى يوجد
أشخاص لا يدركون معنى ما حدث بصدق .
المشكلة
لا تكمن في هؤلاء ولكن تكمن في ( الجموع الغوغائية ) التي يمكن تحريكها بكل بساطة
عبر خطب خاوية سواء من المؤيدين أو من المعارضين ، الأمر الذي يحدث صدامات عنيفة أدت
لمقتل وجرح عدد من الأشخاص ، وهو أمر مؤسف حقا . ومع هذان الفريقان ليسا مكمن
المشكلة ، أنما تكمن المشكلة في ثلاث نقاط :
·
غياب قيادة كاريزمية حكيمة يمكنها إدارة الأزمة ( مع احترامي
للدكتور عصام شرف لكنها الحقيقة ) .
·
وجود أطراف تسعى للصيد في الماء العكر لكسب منافع خاصة .
·
غياب الوعي الشعبي الأمر الذي يسبب ضياع للوطن دون أن يشعر
هؤلاء أو يدركون ، وهم يظنون أنهم يحسنون عملا .
·
أما بخصوص الأطراف التي تحاول تحصيل مكاسب شخصية والصيد في
الماء العكر فهم عدة :
ـ المتحزبين . فلقد وجدت ولأول مرة مصطلح ( القوى السياسية ) ، الأمر
قد يبدو عاديا ، لكنه في الواقع ليس كذلك . أن الأحزاب ـ وكما أقول دائما ـ لا
تختلف عن التعصب القبلي ، خاصة في مجتمعات لا تتوافر على وعي سياسي . فهم ينادون
بالديمقراطية وهم آخر من يؤمن بها ( وفاقد الشيء لا يعطيه ) أنما تلك الأحزاب دليل
على ( حب السلطة ) و ليس حب الوطن أو التعددية ، ومن قرأ الصحف المصرية اليومية
يدرك ما أعنيه .
تجد
تبادل تهم وسب وشتم وكل منهم يتحدث عن معارضة الأخر لرأيه بأنه ( عميل ) ، ثم
يطالبه الآخر بالاعتذار ، ثم السؤال الأهم :
منطقيا
هل تستوعب أي دولة هذا العدد الهائل من الأحزاب ؟؟
وهل
هي حقا مفيدة لمصلحة الدولة ؟
وأي
أيدلوجيات هي التي تحتويها هذه الأحزاب ؟
الإجابة
قطعا بالسلب ، أن كنا نتحدث بمنطق مبتعدين عن الأهواء .
ومازلت
حتى يوم عودتي من مصر أجد في الصحف إعلان عن أحزاب جديدة ، لماذا لست أدري .
ـ ومن أولئك الأطراف أيضا ( التدخلات الأجنبية ) ،
فليقل لي أحدكم ...
هل
يكون ( الحزبي ) شريفا أن قام بإجراء مقابلات ولقاءات سرية في سفارات الدول الأخرى
؟
هل
يكون شريفا أن تقبل ( أموال ) من دول أخرى ؟
هل
يكون الثوريّ شريفا أن وافق أن يعقد ( لقاء سري ) مع ولي عهد دولة أخرى في غياب
ممثلين عن حكومته ؟
أليست
هذه أمور تدعو للشك ؟؟ بل وتدعو لإسقاط الثقة بهؤلاء بل وإسقاط
مصداقيتهم .
لا يخفى
على أحد كم تعاني مصر اقتصاديا منذ عهد مبارك ، وأثناء الثورة وبعدها تفاقم الأمر
، هناك تضخم ، وعجز كبير في ميزانية الدولة ، وهناك مديونية ضخمة خارجية للدولة
وكلما تأخر السداد ازدادت الفائدة وارتفعت بالتالي المديونية مما ينعكس سلبا على
اقتصاد البلد فترتفع بذلك معدلات الفقر أكثر . وهناك أكثر من 50% من السكان
تحت خط الفقر ، وهناك أكثر من ( 4 ملايين )
مواطن يكسبون أرزاقهم من السياحة والتي
أصيبت بشلل خطير .
رغم أن
وجودي في مصر كان لإنجاز بعض الأعمال إلا أن الأمر لم يعدم من بعض التجوال ،
وأثناء تجوالي ـ وخاصة في الأهرامات والتي عادة ما تغص بالسياح الغربيين ـ كان ملفتا جدا عدم وجود سياح . كم يضاعف هذا من
أزمة الوطن الاقتصادية ! .
والأدهى
أن يأتي المثقفون ليطالبوا برفع الرواتب ، ويتظاهروا معترضين على عدم تنفيذ
الحكومة لمطلبهم هذا . أن كان هذا هو رأي الصفوة المثقفة ، فهل يُلام العامة ؟؟!
وليس
مجرد انتكاسة لقطاع السياحة بل وأيضا تفجيرات هنا وهناك لأنابيب الغاز ، فهل يمنحك اعتراضك على تمديد
الغاز لبلد ما الحق لتفجير تلك الأنابيب ؟؟
أضف إلى
ذلك انعدام الشعور الأمني ، أن ما ( تعودته ) خلال زياراتي المتكررة لمصر أن الناس
تتحرك بحرية ، حتى البنات هناك يرتدن النقل العام في تنقلاتهن بدون شرط اصطحاب
مرافق لهن من الأهل ، ولكن ما لاحظته ـ ولا حظه آخرون معي ـ أن كثير من الأهل
كانوا يصطحبون
بناتهم لأداء الامتحانات الجامعية ، وعند سؤالنا عن السبب أجاب كل من سألناه بأن (
وضع البلد ملخبط و مفيش أمان ) .
وأثناء
حواري مع عدد من الأكاديميين من أساتذة ( علم الاجتماع ) وجدتهم ممتعضين من التخبط
الحاصل بعد سقوط الرئيس ، وأني أعرفهم معرفة جيدة وأعرف أيدلوجياتهم ، فهم يكرهون (
مبارك ) و كانوا ـ وحتى في عهده ـ يتحدثون عن سوء أدارته للبلد ، وتغييب العقول
والأموال والمنطق في حكمه ـ وقد شارك بعضهم في الاعتصامات منذ بدايتها ـ إلا أنهم يرفضون ما يحدث من تخبط
وخاصة فيما يتعلق بالجانب ( الأخلاقي
للثورة ) ، فمسألة السب والشتم وأساليب الأهانة التي تكال على ( حسني مبارك ) لا
تروق لهم ، وفي هذا معهم حق ـ أن أردنا الإنصاف ـ فالرجل ـ على علاته ـ كان يوما (
رئيس ) هذه الدولة ، ومهما فعلوا لن يستطيعوا تغيير هذه الحقيقة . وأنت بسبك
للرئيس لا تضره بل تضر نفسك لأنك تحط من قدرها لهذا المستوى الوضيع .
ثم أمر
أخر لفت انتباهي هو المبالغة في المطالبة بمحاكمة مبارك وأفراد حكومته ـ وهذا أمر
لا خلاف فيه ـ لكن :
هل
الوقت مناسب ؟
ما
الجدوى من الثورة أن لم يكن هدفها نشر العدالة ، وتفعيل دولة القانون ؟ وأن كان
هذا هو الهدف ، فهل المطالبة بمحاكمة مستعجلة وإصدار حكم سريعا على هؤلاء هو تطبيق
صحيح لهذا المبدأ ؟
هل من
المنطق أن تطالب بمحاكمة شخص وأنت أصلا قد أصدرت الحكم سلفا وترفض أن تستمع لغيره
؟
يطالبون
بإعدام مبارك ، قال لنا أحدهم : أن الثوار لا يريدون سجن أو إعدام مبارك ، لكن
يقبلون بنفيه خارج الوطن أنما يريدون محاكمته ليكون عبرة لمن يأتي بعده . لكني لا
أؤيده في هذا ، لو كان حقا هذا رأيهم لما نصبوا المشانق الرمزية في ميدان التحرير
والصور التي ترمز لذلك .
الأمر
ذكر جميع من تحدثت إليهم بمحاكمة الرئيس العراقي ( صدام حسين ) ، والذي كان سلفا قد قُرر ماهية الحكم فيه ، تلك المحاكمة التي
تعد مهزلة وسخرية كبرى ، سخر بها على أبناء العراق خصوصا وعلى أبناء الوطن العربي
عموما . ليس لأن رئيسا تم محاكمته ، بل لتوقيت المحاكمة التي كانت تعمية للأبصار
حتى تم سرقة العراق ، ولأجل منهجية المحكمة الفاقدة أصلا لشرعيتها منذ ولادتها .
أن
كان الحاكم ظالما فهذا لا يسوغ أن تكون أنت أيضا ظالما وإلا فما الفرق بينك وبينه
؟!!!!
محاكمة
الفاسدين والخونة ـ و حتى الذين قبلوا أموال من دول أجنبية ـ أمر مفروغ منه ولا جدال فيه ،
لكن هناك ( أولويات ) ، والعاقل من لا يخلط الحابل بالنابل ، فهؤلاء يجب أن يودعوا
في السجن ، لكن يتم تأجيل محاكمته حتى يتم تحقيق المطالب الأساسية التي تضمن عدم
ضياع اقتصاد وأمن و سيادة الوطن ، ثم إجراء الانتخابات الرئاسية
وبعدها تشكيل الحكومة ثم يكون من ضمن واجبات الحكومة الجديدة أجراء محاكمة ( عادلة
و نزيهة ) للرئيس السابق وحكومته ، تكون تلك المحاكمة خالدة عبر التاريخ تعبر عن (
نقاء روح الثورة ) .
هناك من
يثير تفاصيلا الهدف منها هو ذر الرماد على العيون ، للأسف حين تتحدث عن حقائق لا
يصغي لك أحد ، الناس لا تبصر الأمور إلا من أحد لونيين : أما أبيض أو أسود ، وحين
يقع الفأس على الرأس يلطمون وينتحبون ولكن يكون لات حين مندم.
ما يبصره
المرء من ( انحراف ) في مسار الثورة عبر دخول طرفين فيها وهم ( سماسرة المصالح
الشخصية ) ، وكذلك ( الغوغائيين ) الذين
يسيرون خبط عشواء ، وغياب ( الوازع الأخلاقي ) في نفوس كثيرين ، يجعله يطرح تساؤلا
:
هل
ستغير الثورة شيء ؟
أن تدخل
أطراف خارجية بطريقة تمس بشكل ملفت سيادة الدولة يجعلنا ندرك أنه يراد لأقطار
الوطن العربي أن تكون مثل ( العراق ) ـ تناحر
، ودمار ، وفساد وفقر مدقع رغم الثراء ـ أو في
أحسن الأحوال مثل ( لبنان ) ـ طوائف ، تضاد ، وأحزاب محسوبة على دول أخرى ،
وضياع للوطن ، وتأخر واضح في التنمية ـ كل تلك المعطيات والتي أبصرها
الجميع جعلت الكثيرين يبحثون في أمور مثل :
هل هناك
خيانة للوطن ؟
من هو
الخائن ؟ وطبعا كل فريق يخُّون الأخر .
لاحظت
بعد أن وضعت مقالة سابقة بعنوان ( إلا خيانة الوطن ) أن عددا ضخما من مستخدمي
محركات البحث ـ منذ وضعته وحتى لحظة كتابتي لهذا المقال ـ يبحثون في موضوع ( خيانة الوطن ) ، أو قصائد وأشعار في خيانة
الوطن ، وأني أحيل هذا الأمر بسبب حضور تلك المعطيات ليس إلا .
الجميع
يعرف ـ حتى أغبى الناس ـ أن الغربيين لن يتدخلوا لأجل سواد عيون أحد بل لأجل
مصالحهم الخاصة ، وكما يقول المثل الخليجي الشعبي : ( الذيب ما يهرول عبث ) .
فماذا
باع تجار الثورة ـ في غفلة ( شرفاء ) الثورة ـ للغربيين بقيادة أمريكا أثناء
لقاءهم بـ ( هيلاري كلنتون ) في النمسا حتى وافق حلف الناتو بضغط من أمريكا على
التدخل عسكريا في ( ليبيا ) حتى قبل أن يقر الكونجرس الأمريكي ميزانية التدخل
العسكري في ليبيا ؟
والجواب
على هذا السؤال سيقود للإجابة على السؤال التالي :
هل
ستكون ليبيا ـ ومثلها باقي الأقطار العربية الأخرى ـ في حال أفضل بعد سقوط النظام
المُنْقَلب عليه ؟
الإجابة
قطعاً هي : للأسف الشديد ( لا ) . إلا أن أحببنا أن نكذب على أنفسنا ، ونغالط في
الحقائق أنفسنا . و ( لا أقول ) هذا يأسا
أو تراجعا ، أنما أقوله بناءً على حقائق مؤكدة وجلية .
من تلك
الحقائق :
ـ التدخل
الأجنبي السافر لتحصيل مكاسب ، ووجود ( باعة ) للوطن في المقابل ، والذي سيستميت لأجلها وهو
يمتلك مقومات النصر طبعا .
ـ انعدام
الوعي الحقيقي في القطاع الشعبي لما يجب أن تسير عليه الأمور وعدم إدراك الأولويات
.
ـ السعي
للحصول على ( مكاسب شخصية ) لهثا وراء السلطة والمال .
ـ وجود
خلل متأصل في المجتمع لن يمكن معه إصلاح الحكم ما لم يصلح المحكومين ، لأن من
سيكونوا في الحكم أولا وأخيرا هم نتاج هذا المجتمع .
ـ وجود
سلطات كثيرة تتنازعها ( أيدلوجيات و أهداف متفرقة ) ، ولا يمكن لسفينة أن تنجو في
بحر هائج و هي يقودها ألف رُبَّان .
وأخيراً
...
أن كل ما
ذكرته هو ليس حكرا على ( مصر ) وحدها ، فهو يتكرر في ( سوريا ) و ( اليمن ) و ( تونس ) و كذلك ( ليبيا )
الذي يبدو التدخل الأجنبي فيه جليا واضحا .
أن طرحي
لما طرحت ليس من باب ( النقد لمجرد النقد ) ، وليس لبث ( الروح الانهزامية ) ، بل على المقاتل أن يدرك حقيقة المعركة ليعلم
متى ( يكر ) و متى ( يفر ) ، وذلك لبلوغ الهدف المنشود بأقل الخسائر الممكنة .