الخميس، 29 مايو 2014

لا تهدم المبنى





" لا يحقرن أحدكم نفسه "
حديث نبوي





 

أن اعتزازك بلهجتك وقيمك يجعل منك إنسان يحترم لهجة و قيم و ثقافة الأخر ، و يجعلك قادرا على تقبل الآخر و التفاعل معه . أن الوطن العربي ـ  من المحيط إلى الخليج ـ  جسد واحد ، حتى و أن حاول البعض التملص من هذه الحقيقة ، لكنك لا تستطيع أبدا أن تتجاهل أن كل شر يحدث في أحد الدول العربية نتأثر  به جميعا . و  أن أي خير يحدث فيها نستفيد منه جميعا ، و هو خير يعمنا جميعا . بالتالي فتراث أي دولة عربية هو تراثنا جميعا ، و ثقافة و تاريخ أي دولة عربية هي  ثقافتنا  و تراثنا جميعا ، و أن عزة و رفعة أي دولة عربية هي عزتنا جميعا  و رفعتنا جميعا .

أنه من العار أن تحتقر لهجة أي بلد عربية أخرى ، و العار أكبر العار أن تحتقر لهجتك أو تخجل منها ، أنت لست مطالبا أبدا بأن تلغي لهجتك من أجل أي شخص مهما كان ، المحترم سيحترمك و يحترم لهجتك و سيحاول فهمها ولو من سياقها العام ، لأنه يعلم تماما أن لهجتك هي تراث عربي له  به صلة ، و هو يشاركك فيه ، لا يحق له الاستهزاء أو الاستخفاف به .  و كما أنه يحب أن يحترم الناس لهجته فهو أيضا يحترم لهجتهم .

أثناء زيارتي لمحل التذكارات الموجود في المتحف المصري ـ  بعد جولة في المتحف[1] ـ  سمعت موظفة هناك كانت تحاور زميل و زميلة لها ، و تقول لهم : ( قال لي رويني ، بيقول رويني[2] ) و كانت تضحك و يضحكون معها  ساخرين من تلك اللهجة ، فهمت أنها كانت تحدثهم عن سائح كان في المحل يشتري تذكارات ، و كان يتحدث بلهجته فكانت تتندر عليه .

كان و اضحا أن من كانوا يستهزؤون  بلهجته هو سائح ( إماراتي ) . الأمر أغضبني جدا ، وليس من عادتي السكوت[3] على من يسخرون و يستخفون بغيرهم ، لكن للأسف الوضع لم يكن يسمح لأي نقاش .

أولئك الذين كل همهم احتقار لهجتهم ، و عاداتهم ، وقيمهم ، أو يحتقرون لهجة ، و عادات  ، و قيم الآخرين هم أناس يعانون من عقدة النقص و الشعور بالدونية ، ويعانون جدا من ضحالة الفكر .

أنت لا تملك ـ أبدا ـ  أي برهان أو دليل أو حجة على أن لهجتك هي أفضل اللهجات أو أن عاداتك هي أحسن العادات ، أو قيمك هي أنبل القيم . كما أنك لا تملك أي برهان أو دليل  أو حجة على أن لهجتك هي لهجة سيئة  ، و أن عاداتك عادات غير جيدة أو أن قيمك هي قيم غير موزونة .

أن وجود بعض المثالب في قيم ما أو عادات ما ، لا تعني أبدا أن تحتقرها جملة وتفصيلا ، و هذا سلوك ينم على فقر فكري و ثقافي  عميق عند هذا الإنسان .

ثق تماما ـ وهذا من صميم تجربتي و مشاهدتي ـ أنك وكما تسخر من لهجة و قيم وعادات غيرك فإن هناك من يسخر من قيمك و عادتك و لهجتك . مرة  قالت لي سيدة أردنية أنها تتقزز من اللهجة التونسية ، وأنها لا تعجبها أطلاقا . و بعد فترة في  أقل عن شهر كنت أتحدث لصديق سعودي و في خضم حديثنا كان يقول لي أن اللهجة الأردنية لهجة لا تعجبه أبدا ، وأنه يشعر بالغثيان عند سماعها .
حين استحضر هذه الأمثلة فأنا أنبه بشدة على ( عدم التعميم ) ، فلا يعني أن فلان ينتقد فلان بأن هذا دليل على أن أهل البلد الفلانية جميعهم يشاركونه الرأي . فلا يحق لنا التعميم نهائيا . و استحضار هذه الأمثلة ضروري لنفتح العيون الناعسة التي يغطيها الغرور و الكبر و السفاهة لتفهم ما حولها .

مثل هذه الانتقادات على اللهجات لا تحدث فقط بين دولة وأخرى ، و لكن أيضا تحدث بين مدينة وأخر داخل الدولة الواحدة ، و كل حزب بما لديهم فرحون .


ليس من العدل الحكم على لهجة برمتها على أنها لهجة غير  راقية ، و لكن يمكن الحكم على ألفاظ معينة في لهجة ما على  أنها ألفاظ راقية أو سوقية . أما مسألة الإعجاب أو عدم الإعجاب  بلهجة ما ، فهذه مسألة نسبية تختلف من شخص إلى أخر . و من يتحدث مثلا عن حوار دار بينه وبين شخص صاحب لهجة  مختلفة فيقول لم أفهم كلامه . فهذا في حد ذاته ليس استهزاء  بلهجة الأخر ، إلا إذا قيلت بلهجة تحمل نبرة استهزاء و تهكم ، أو ترافقت مع حركة جسدية معينة تنم عن الاستهزاء و التهكم ، فإن كان كلامه استهزاء و تهكم فهذا الشخص مسكين يستحق  الدعاء ليشفيه الله مما ابتلاه . لأنه يظن أن لهجته هي الفصاحة  أمها و أبوها ، وما علم المسكين أن لهجته عند غيره كما لهجة  غيره  عنده  هو .

البعض قد يرى موضوع المقال غير ذي معنى ، لكن أن وقفت في ذات الضفة معي قد ترى أن الأمر أخطر من السطحية التي قد تبدو عليه  ، نحن ـ  العرب  ـ  أكثر ما نفعله هو تحقير أنفسنا ، نحقر كل شيء يتعلق بنا من عادات ولهجات و قيم و مبادئ ، وغيرها .  نحن أخطر من عدونا على أنفسنا . فهذا التحقير التعسفي و غير المنطقي الذي نفعه ـ غالبا ـ لا شعوريا يدفع بنا إلى الهاوية أكثر و أكثر . لأنه مثبط كبير يفضي بنا إلى الفشل . أن اللهجة هي أحد المقومات الحضارية لأي وطن  قد لا ترقى اللهجة إلى رقي اللغة الفصحى لكنها تبقى دعامة من دعائم الثقافة الوطنية . و أنك أن كنت مستاء من تشوه الجدران و الأعمدة في المبني الذي تعيش فيه فهذا لا يخولك أبدا أن تقوم بهدم القواعد ، أو هدم الأعمدة ، لأن أعادة أعمارها يكلف غاليا جدا . علينا أن نسعى لترميم ما تشوه ، و إزالة ما يسيء ، وتجميل ما أفسدته عوامل الحياة و نزيد عليه ما يليق به ،  ليعود المبنى شامخا راقيا كما كان .

من واجبنا عدم الانجرار مع تيار الخلافات السياسية ، بل أن نذلل الصعاب حتى نعيد الانسجام الذي أصيب ببعض الضرر ، ذلك الانسجام الذي كان يضيء ببهائه هذا الوطن العربي الكبير .  و  اللهجة بداية جميلة يمكن الانطلاق منها .


أخيراً ..

تحدث لهجتك بأريحية ، لا تهتم لكلام السفهاء ، و السطحيين . هم بتسفيه لهجة غيرهم يظهرون مدى تبلدهم ومحدودية معرفتهم وفكرهم .

فقط أن أحببت و من باب التكرم منك يمكنك استخدام لهجة وسط ، بحيث لا تستخدم الألفاظ و المصطلحات ( العامية القح ) في لهجتك عندما تحاور أناس أصحاب لهجات أخرى ، هذا فقط من باب فتح باب التواصل بينكم ، وسيكون ذلك كرما منك .

و تذكر جيدا : أن جبريل لم ينزل من شجرة المنتهى لا بلهجتك ولا بلهجة غيرك .






[1] - كان هذا في صيف عام 2009 م .
[2] - روّيني بلهجة بعض أهل الإمارات تعني :  دعيني أرى ، و يقولون : أروّيك  بمعنى أُريك .  أما في اللهجة المصرية فيقولون : أورّيك .
[3] - هذا لا يعني أني كنت سأشاجرهم ، فلست من هذا النوع ، لكني في العادة قد أطرح سؤال أو جملة معينة تجعل من الشخص يفهم مدى سوء فعله . فإن كان المجال أرحب لنقاش خفيف فذلك .

ليست هناك تعليقات: