" لا يحقرن أحدكم نفسه
"
حديث نبوي
أن
اعتزازك بلهجتك وقيمك يجعل منك إنسان يحترم لهجة و قيم و ثقافة الأخر ، و يجعلك
قادرا على تقبل الآخر و التفاعل معه . أن الوطن العربي ـ من المحيط إلى الخليج ـ جسد واحد ، حتى و أن حاول البعض التملص من هذه
الحقيقة ، لكنك لا تستطيع أبدا أن تتجاهل أن كل شر يحدث في أحد الدول العربية
نتأثر به جميعا . و أن أي خير يحدث فيها نستفيد منه جميعا ، و هو
خير يعمنا جميعا . بالتالي فتراث أي دولة عربية هو تراثنا جميعا ، و ثقافة و تاريخ
أي دولة عربية هي ثقافتنا و تراثنا جميعا ، و أن عزة و رفعة أي دولة عربية
هي عزتنا جميعا و رفعتنا جميعا .
أنه
من العار أن تحتقر لهجة أي بلد عربية أخرى ، و العار أكبر العار أن تحتقر لهجتك أو
تخجل منها ، أنت لست مطالبا أبدا بأن تلغي لهجتك من أجل أي شخص مهما كان ، المحترم
سيحترمك و يحترم لهجتك و سيحاول فهمها ولو من سياقها العام ، لأنه يعلم تماما أن
لهجتك هي تراث عربي له به صلة ، و هو
يشاركك فيه ، لا يحق له الاستهزاء أو الاستخفاف به . و كما أنه يحب أن يحترم الناس لهجته فهو أيضا
يحترم لهجتهم .
أثناء
زيارتي لمحل التذكارات الموجود في المتحف المصري ـ بعد جولة في المتحف[1] ـ سمعت موظفة هناك كانت تحاور زميل و زميلة لها ، و
تقول لهم : ( قال لي رويني ، بيقول رويني[2] )
و كانت تضحك و يضحكون معها ساخرين من تلك
اللهجة ، فهمت أنها كانت تحدثهم عن سائح كان في المحل يشتري تذكارات ، و كان يتحدث
بلهجته فكانت تتندر عليه .
كان
و اضحا أن من كانوا يستهزؤون بلهجته هو
سائح ( إماراتي ) . الأمر أغضبني جدا ، وليس من عادتي السكوت[3]
على من يسخرون و يستخفون بغيرهم ، لكن للأسف الوضع لم يكن يسمح لأي نقاش .
أولئك
الذين كل همهم احتقار لهجتهم ، و عاداتهم ، وقيمهم ، أو يحتقرون لهجة ، و
عادات ، و قيم الآخرين هم أناس يعانون من
عقدة النقص و الشعور بالدونية ، ويعانون جدا من ضحالة الفكر .
أنت
لا تملك ـ أبدا ـ أي برهان أو دليل أو حجة
على أن لهجتك هي أفضل اللهجات أو أن عاداتك هي أحسن العادات ، أو قيمك هي أنبل
القيم . كما أنك لا تملك أي برهان أو دليل أو حجة على أن لهجتك هي لهجة سيئة ، و أن عاداتك عادات غير جيدة أو أن قيمك هي
قيم غير موزونة .
أن
وجود بعض المثالب في قيم ما أو عادات ما ، لا تعني أبدا أن تحتقرها جملة وتفصيلا ،
و هذا سلوك ينم على فقر فكري و ثقافي عميق
عند هذا الإنسان .
ثق تماما ـ وهذا من
صميم تجربتي و مشاهدتي ـ أنك وكما تسخر من لهجة و قيم وعادات غيرك فإن هناك من
يسخر من قيمك و عادتك و لهجتك . مرة قالت
لي سيدة أردنية أنها تتقزز من اللهجة التونسية ، وأنها لا تعجبها أطلاقا . و بعد
فترة في أقل عن شهر كنت أتحدث لصديق سعودي
و في خضم حديثنا كان يقول لي أن اللهجة الأردنية لهجة لا تعجبه أبدا ، وأنه يشعر
بالغثيان عند سماعها .
حين استحضر هذه
الأمثلة فأنا أنبه بشدة على ( عدم التعميم ) ، فلا يعني أن فلان ينتقد فلان بأن
هذا دليل على أن أهل البلد الفلانية جميعهم يشاركونه الرأي . فلا يحق لنا التعميم
نهائيا . و استحضار هذه الأمثلة ضروري لنفتح العيون الناعسة التي يغطيها الغرور و
الكبر و السفاهة لتفهم ما حولها .
مثل هذه الانتقادات
على اللهجات لا تحدث فقط بين دولة وأخرى ، و لكن أيضا تحدث بين مدينة وأخر داخل
الدولة الواحدة ، و كل حزب بما لديهم فرحون .
ليس من العدل الحكم
على لهجة برمتها على أنها لهجة غير راقية
، و لكن يمكن الحكم على ألفاظ معينة في لهجة ما على أنها ألفاظ راقية أو سوقية . أما مسألة الإعجاب
أو عدم الإعجاب بلهجة ما ، فهذه مسألة
نسبية تختلف من شخص إلى أخر . و من يتحدث مثلا عن حوار دار بينه وبين شخص صاحب
لهجة مختلفة فيقول لم أفهم كلامه . فهذا
في حد ذاته ليس استهزاء بلهجة الأخر ، إلا
إذا قيلت بلهجة تحمل نبرة استهزاء و تهكم ، أو ترافقت مع حركة جسدية معينة تنم عن
الاستهزاء و التهكم ، فإن كان كلامه استهزاء و تهكم فهذا الشخص مسكين يستحق الدعاء ليشفيه الله مما ابتلاه . لأنه يظن أن
لهجته هي الفصاحة أمها و أبوها ، وما علم
المسكين أن لهجته عند غيره كما لهجة غيره عنده هو
.
البعض قد يرى موضوع
المقال غير ذي معنى ، لكن أن وقفت في ذات الضفة معي قد ترى أن الأمر أخطر من
السطحية التي قد تبدو عليه ، نحن ـ العرب
ـ أكثر ما نفعله هو تحقير أنفسنا ،
نحقر كل شيء يتعلق بنا من عادات ولهجات و قيم و مبادئ ، وغيرها . نحن أخطر من عدونا على أنفسنا . فهذا التحقير
التعسفي و غير المنطقي الذي نفعه ـ غالبا ـ لا شعوريا يدفع بنا إلى الهاوية أكثر و
أكثر . لأنه مثبط كبير يفضي بنا إلى الفشل . أن اللهجة هي أحد المقومات الحضارية
لأي وطن قد لا ترقى اللهجة إلى رقي اللغة
الفصحى لكنها تبقى دعامة من دعائم الثقافة الوطنية . و أنك أن كنت مستاء من تشوه
الجدران و الأعمدة في المبني الذي تعيش فيه فهذا لا يخولك أبدا أن تقوم بهدم
القواعد ، أو هدم الأعمدة ، لأن أعادة أعمارها يكلف غاليا جدا . علينا أن نسعى
لترميم ما تشوه ، و إزالة ما يسيء ، وتجميل ما أفسدته عوامل الحياة و نزيد عليه ما
يليق به ، ليعود المبنى شامخا راقيا كما
كان .
من واجبنا عدم الانجرار
مع تيار الخلافات السياسية ، بل أن نذلل الصعاب حتى نعيد الانسجام الذي أصيب ببعض
الضرر ، ذلك الانسجام الذي كان يضيء ببهائه هذا الوطن العربي الكبير . و اللهجة بداية جميلة يمكن الانطلاق منها .
أخيراً ..
تحدث لهجتك بأريحية ،
لا تهتم لكلام السفهاء ، و السطحيين . هم بتسفيه لهجة غيرهم يظهرون مدى تبلدهم
ومحدودية معرفتهم وفكرهم .
فقط أن أحببت و من
باب التكرم منك يمكنك استخدام لهجة وسط ، بحيث لا تستخدم الألفاظ و المصطلحات (
العامية القح ) في لهجتك عندما تحاور أناس أصحاب لهجات أخرى ، هذا فقط من باب فتح
باب التواصل بينكم ، وسيكون ذلك كرما منك .
و تذكر جيدا : أن
جبريل لم ينزل من شجرة المنتهى لا بلهجتك ولا بلهجة غيرك .
[1] - كان هذا في صيف عام 2009
م .
[2] - روّيني بلهجة بعض أهل
الإمارات تعني : دعيني أرى ، و يقولون :
أروّيك بمعنى أُريك . أما في اللهجة المصرية فيقولون : أورّيك .
[3] - هذا لا يعني أني كنت
سأشاجرهم ، فلست من هذا النوع ، لكني في العادة قد أطرح سؤال أو جملة معينة تجعل
من الشخص يفهم مدى سوء فعله . فإن كان المجال أرحب لنقاش خفيف فذلك .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق