الأربعاء، 27 يوليو 2011

هل يدركون معنى ( ثورة ) ؟




" خَدَعوها بِقَولِهِم حَسناءُ 
 وَالغَواني يَغُرُّهُنَّ الثَناءُ
أَتُراها تَناسَت اسمِيَ لَمّا
 كَثُرَت في غَرامِها الأَسماءُ "
"أحمد شوقي ، شاعر من مصر "




أن أمور الحكم والسياسة أشبه بقيادة ( سفينة ) في بحر دائم الهيجان ، أنك حين تقف على الشاطئ قد لا تدرك خطورة البحر ، بل قد يغريك ارتياده متجاهلا و ربما جاهلا لمجاهله وأغواره . بعد الثورة الشعبية في مصر ـ ولن يختلف الحال في باقي الأقطار العربية ـ صار الجميع سياسيين و ثوار ، ولكن بعد أن نجحت الثورة ( مبدئيا ) .

في طريق خروجنا من ( مطار القاهرة ) مع السائق الذي أعرفه منذ سنوات وجدته شخصا آخر ، كان طوال الوقت ـ وحتى في الأيام التالية ـ يستمع إلى نشرة الأخبار عبر المذياع  وهذا ليس من عادته ، ثم  وجدته ـ  و هو الشخص الذي لا يأبه بالسياسة وليس من أهل الإقدام  حتى في المواقف البسيطة ـ صار ثوريا دفعة واحدة. لم يكن الوضع مناسبا لطرح أي أسئلة اللهم عن أحوال مصر و والأوضاع ، فكان يجيب : ( الحمد لله كله تمام ) . ثم في اللقاءات التالية كان الرجل لا ينفك يتحدث عن الاعتصام والثورة ، وهنا كان لابد من استيضاح الأمر فالرجل مثل ما يقول المصريين ( مش بتاع سياسة ) ، وهنا اكتشفت أن الرجل ( لم يشارك ) ، أنما كل ما فعله هو أنه زار ميدان التحرير في أحد الأيام الهادئة فيه فقط ثم غادر .
وفي أثناء وجودي قررنا زيارة ( ميدان التحرير )  أثناء استعداد المتظاهرين لجمعة مليونية كان ذلك في صباح يوم الجمعة ، فكان الرجل متحمس ، لكنه حين رأى حشود المتظاهرين صار متوتر ورفض حتى أن نقف أعلى الجسر لنشاهد ما يحدث . قلت في نفسي : أهذه روح ثائر ؟!! وحتى حين كنت أستقل سيارة أجرة أخرى ، فإني أجد سائقيها بذات الإيقاع و الذي لم أعهده : يستمعون للأخبار باستمرار عبر المذياع ، وكذلك يتحدث إليك أحدهم عن الثورة ويقول : (  أننا سنفعل وسنفعل ، وسنحاصر السفارة الفلانية و و و ) .  حين تستمع لأحدهم تظن أنك أمام (  تشي جيفارا ) ، بينما هو حتى لا يدنو من ( ميدان التحرير ) ناهيك عن الاعتصام فيه . حقا أنه أمر مضحكٌ مبكي .  كل ثورة شعبية تضم :

·        شرفاء عقلاء .
·        ومتسلقون طامعون .
·        وغوغاء تخوض مع الخائضين .
·        والحلقة الأضعف من جميع هؤلاء هم الشرفاء العقلاء .

هذه نقطة ـ علاوة على ملاحظتي لها حتى قبل سفري لمصر ـ أكدها لي بعض أساتذة علم الاجتماع في مصر ، من أن أناس لا ناقة لهم ولا جمل في السياسة ولا في الشأن العام أصبحوا يحاولوا الظهور بمظهر ( أبطال الثورة ) ، وفوقها ما أخبرنا به أحدهم أذا قال : أن عدد من الشباب كان يحضر للميدان بالليل حيث تقام أماسي غنائية و تمثليات و تسليات ، فبدل قضائهم لوقتهم في القهاوي ـ كما المعتاد ـ صاروا يأتون للميدان ( أصل الجو كان حلو هناك ) .  طبعا هذا لا يعني أن جميع من في الميدان هم من هذه الشاكلة أنما أوردت هذا الكلام لأظهر لأي مدى يوجد أشخاص لا يدركون معنى ما حدث بصدق .

المشكلة لا تكمن في هؤلاء ولكن تكمن في ( الجموع الغوغائية ) التي يمكن تحريكها بكل بساطة عبر خطب خاوية سواء من المؤيدين أو من المعارضين ، الأمر الذي يحدث صدامات عنيفة أدت لمقتل وجرح عدد من الأشخاص ، وهو أمر مؤسف حقا . ومع هذان الفريقان ليسا مكمن المشكلة ، أنما تكمن المشكلة في ثلاث نقاط :

·        غياب قيادة كاريزمية حكيمة يمكنها إدارة الأزمة ( مع احترامي للدكتور عصام شرف لكنها الحقيقة ) .
·        وجود أطراف تسعى للصيد في الماء العكر لكسب منافع خاصة .
·    غياب الوعي الشعبي الأمر الذي يسبب ضياع للوطن دون أن يشعر هؤلاء أو يدركون ، وهم يظنون أنهم يحسنون عملا .
·        أما بخصوص الأطراف التي تحاول تحصيل مكاسب شخصية والصيد في الماء العكر فهم عدة :

ـ المتحزبين . فلقد وجدت ولأول مرة مصطلح ( القوى السياسية ) ، الأمر قد يبدو عاديا ، لكنه في الواقع ليس كذلك . أن الأحزاب ـ وكما أقول دائما ـ لا تختلف عن التعصب القبلي ، خاصة في مجتمعات لا تتوافر على وعي سياسي . فهم ينادون بالديمقراطية وهم آخر من يؤمن بها ( وفاقد الشيء لا يعطيه ) أنما تلك الأحزاب دليل على ( حب السلطة ) و ليس حب الوطن أو التعددية ، ومن قرأ الصحف المصرية اليومية يدرك ما أعنيه .

تجد تبادل تهم وسب وشتم وكل منهم يتحدث عن معارضة الأخر لرأيه بأنه ( عميل ) ، ثم يطالبه الآخر بالاعتذار ، ثم السؤال الأهم :

منطقيا هل تستوعب أي دولة هذا العدد الهائل من الأحزاب ؟؟

وهل هي حقا مفيدة لمصلحة الدولة ؟

وأي أيدلوجيات هي التي تحتويها هذه الأحزاب ؟

الإجابة قطعا بالسلب ، أن كنا نتحدث بمنطق مبتعدين عن الأهواء .
ومازلت حتى يوم عودتي من مصر أجد في الصحف إعلان عن أحزاب جديدة ، لماذا لست أدري .

     ـ  ومن أولئك الأطراف أيضا ( التدخلات الأجنبية ) ، فليقل لي أحدكم ...

هل يكون ( الحزبي ) شريفا أن قام بإجراء مقابلات ولقاءات سرية في سفارات الدول الأخرى ؟

هل يكون شريفا أن تقبل ( أموال ) من دول أخرى ؟

هل يكون الثوريّ شريفا أن وافق أن يعقد ( لقاء سري ) مع ولي عهد دولة أخرى في غياب ممثلين عن حكومته ؟

أليست هذه أمور تدعو للشك ؟؟ بل وتدعو لإسقاط الثقة بهؤلاء بل وإسقاط مصداقيتهم .

لا يخفى على أحد كم تعاني مصر اقتصاديا منذ عهد مبارك ، وأثناء الثورة وبعدها تفاقم الأمر ، هناك تضخم ، وعجز كبير في ميزانية الدولة ، وهناك مديونية ضخمة خارجية للدولة وكلما تأخر السداد ازدادت الفائدة وارتفعت بالتالي المديونية مما ينعكس سلبا على اقتصاد البلد فترتفع بذلك معدلات الفقر أكثر . وهناك أكثر من 50% من السكان تحت خط الفقر ، وهناك أكثر من (  4 ملايين )  مواطن يكسبون أرزاقهم من السياحة والتي أصيبت بشلل خطير .

رغم أن وجودي في مصر كان لإنجاز بعض الأعمال إلا أن الأمر لم يعدم من بعض التجوال ، وأثناء تجوالي ـ وخاصة في الأهرامات والتي عادة ما تغص بالسياح الغربيين ـ  كان ملفتا جدا عدم وجود سياح . كم يضاعف هذا من أزمة الوطن الاقتصادية ! .

والأدهى أن يأتي المثقفون ليطالبوا برفع الرواتب ، ويتظاهروا معترضين على عدم تنفيذ الحكومة لمطلبهم هذا . أن كان هذا هو رأي الصفوة المثقفة ، فهل يُلام العامة ؟؟!

وليس مجرد انتكاسة لقطاع السياحة بل وأيضا تفجيرات هنا وهناك لأنابيب الغاز ، فهل يمنحك اعتراضك على تمديد الغاز لبلد ما الحق لتفجير تلك الأنابيب ؟؟

أضف إلى ذلك انعدام الشعور الأمني ، أن ما ( تعودته ) خلال زياراتي المتكررة لمصر أن الناس تتحرك بحرية ، حتى البنات هناك يرتدن النقل العام في تنقلاتهن بدون شرط اصطحاب مرافق لهن من الأهل ، ولكن ما لاحظته ـ ولا حظه آخرون معي ـ أن كثير من الأهل كانوا يصطحبون بناتهم لأداء الامتحانات الجامعية ، وعند سؤالنا عن السبب أجاب كل من سألناه بأن ( وضع البلد ملخبط و مفيش أمان ) .

وأثناء حواري مع عدد من الأكاديميين من أساتذة ( علم الاجتماع ) وجدتهم ممتعضين من التخبط الحاصل بعد سقوط الرئيس ، وأني أعرفهم معرفة جيدة وأعرف أيدلوجياتهم ، فهم يكرهون ( مبارك ) و كانوا ـ وحتى في عهده ـ يتحدثون عن سوء أدارته للبلد ، وتغييب العقول والأموال والمنطق في حكمه ـ وقد شارك بعضهم في الاعتصامات منذ بدايتها ـ إلا أنهم يرفضون ما يحدث من تخبط وخاصة فيما يتعلق بالجانب (  الأخلاقي للثورة ) ، فمسألة السب والشتم وأساليب الأهانة التي تكال على ( حسني مبارك ) لا تروق لهم ، وفي هذا معهم حق ـ أن أردنا الإنصاف ـ فالرجل ـ على علاته ـ كان يوما ( رئيس ) هذه الدولة ، ومهما فعلوا لن يستطيعوا تغيير هذه الحقيقة . وأنت بسبك للرئيس لا تضره بل تضر نفسك لأنك تحط من قدرها لهذا المستوى الوضيع .

ثم أمر أخر لفت انتباهي هو المبالغة في المطالبة بمحاكمة مبارك وأفراد حكومته ـ وهذا أمر لا خلاف فيه ـ لكن :

هل الوقت مناسب ؟

ما الجدوى من الثورة أن لم يكن هدفها نشر العدالة ، وتفعيل دولة القانون ؟ وأن كان هذا هو الهدف ، فهل المطالبة بمحاكمة مستعجلة وإصدار حكم سريعا على هؤلاء هو تطبيق صحيح لهذا المبدأ ؟

هل من المنطق أن تطالب بمحاكمة شخص وأنت أصلا قد أصدرت الحكم سلفا وترفض أن تستمع لغيره ؟

يطالبون بإعدام مبارك ، قال لنا أحدهم : أن الثوار لا يريدون سجن أو إعدام مبارك ، لكن يقبلون بنفيه خارج الوطن أنما يريدون محاكمته ليكون عبرة لمن يأتي بعده . لكني لا أؤيده في هذا ، لو كان حقا هذا رأيهم لما نصبوا المشانق الرمزية في ميدان التحرير والصور التي ترمز لذلك .

الأمر ذكر جميع من تحدثت إليهم بمحاكمة الرئيس العراقي ( صدام حسين ) ، والذي كان سلفا  قد قُرر ماهية الحكم فيه ، تلك المحاكمة التي تعد مهزلة وسخرية كبرى ، سخر بها على أبناء العراق خصوصا وعلى أبناء الوطن العربي عموما . ليس لأن رئيسا تم محاكمته ، بل لتوقيت المحاكمة التي كانت تعمية للأبصار حتى تم سرقة العراق ، ولأجل منهجية المحكمة الفاقدة أصلا لشرعيتها منذ ولادتها .

أن كان الحاكم ظالما فهذا لا يسوغ أن تكون أنت أيضا ظالما وإلا فما الفرق بينك وبينه ؟!!!!

محاكمة الفاسدين والخونة ـ و حتى الذين قبلوا أموال من دول أجنبية ـ أمر مفروغ منه ولا جدال فيه ، لكن هناك ( أولويات ) ، والعاقل من لا يخلط الحابل بالنابل ، فهؤلاء يجب أن يودعوا في السجن ، لكن يتم تأجيل محاكمته حتى يتم تحقيق المطالب الأساسية التي تضمن عدم ضياع اقتصاد  وأمن  و سيادة الوطن ، ثم إجراء الانتخابات الرئاسية وبعدها تشكيل الحكومة ثم يكون من ضمن واجبات الحكومة الجديدة أجراء محاكمة ( عادلة و نزيهة ) للرئيس السابق وحكومته ، تكون تلك المحاكمة خالدة عبر التاريخ تعبر عن ( نقاء روح الثورة ) .

هناك من يثير تفاصيلا الهدف منها هو ذر الرماد على العيون ، للأسف حين تتحدث عن حقائق لا يصغي لك أحد ، الناس لا تبصر الأمور إلا من أحد لونيين : أما أبيض أو أسود ، وحين يقع الفأس على الرأس يلطمون وينتحبون ولكن يكون لات حين مندم.

ما يبصره المرء من ( انحراف ) في مسار الثورة عبر دخول طرفين فيها وهم ( سماسرة المصالح الشخصية ) ، وكذلك ( الغوغائيين )  الذين يسيرون خبط عشواء ، وغياب ( الوازع الأخلاقي ) في نفوس كثيرين ، يجعله يطرح تساؤلا :

هل ستغير الثورة شيء ؟
أن تدخل أطراف خارجية بطريقة تمس بشكل ملفت سيادة الدولة يجعلنا ندرك أنه يراد لأقطار الوطن العربي أن تكون مثل (  العراق )  ـ  تناحر ، ودمار ، وفساد وفقر مدقع رغم الثراء ـ   أو  في أحسن الأحوال مثل ( لبنان )  ـ  طوائف ، تضاد ، وأحزاب محسوبة على دول أخرى ، وضياع للوطن ، وتأخر واضح في التنمية ـ  كل تلك المعطيات والتي أبصرها الجميع جعلت الكثيرين يبحثون في أمور مثل :

هل هناك خيانة للوطن ؟

من هو الخائن ؟ وطبعا كل فريق يخُّون الأخر .

لاحظت بعد أن وضعت مقالة سابقة بعنوان ( إلا خيانة الوطن ) أن عددا ضخما من مستخدمي محركات البحث ـ منذ وضعته وحتى لحظة كتابتي لهذا المقال ـ يبحثون في موضوع  ( خيانة الوطن ) ، أو قصائد وأشعار في خيانة الوطن ، وأني أحيل هذا الأمر بسبب حضور تلك المعطيات ليس إلا .

الجميع يعرف ـ حتى أغبى الناس ـ أن الغربيين لن يتدخلوا لأجل سواد عيون أحد بل لأجل مصالحهم الخاصة ، وكما يقول المثل الخليجي الشعبي : ( الذيب ما يهرول عبث ) .

فماذا باع تجار الثورة ـ في غفلة ( شرفاء ) الثورة ـ للغربيين بقيادة أمريكا أثناء لقاءهم بـ ( هيلاري كلنتون ) في النمسا حتى وافق حلف الناتو بضغط من أمريكا على التدخل عسكريا في ( ليبيا ) حتى قبل أن يقر الكونجرس الأمريكي ميزانية التدخل العسكري في ليبيا ؟

والجواب على هذا السؤال سيقود للإجابة على السؤال التالي :

هل ستكون ليبيا ـ ومثلها باقي الأقطار العربية الأخرى ـ في حال أفضل بعد سقوط النظام المُنْقَلب عليه ؟

الإجابة قطعاً هي : للأسف الشديد ( لا ) . إلا أن أحببنا أن نكذب على أنفسنا ، ونغالط في الحقائق أنفسنا . و ( لا  أقول ) هذا يأسا أو تراجعا ، أنما أقوله بناءً على حقائق مؤكدة وجلية .

من تلك الحقائق :

ـ التدخل الأجنبي السافر لتحصيل مكاسب ، ووجود ( باعة )  للوطن في المقابل ، والذي سيستميت لأجلها وهو يمتلك مقومات النصر طبعا .

ـ انعدام الوعي الحقيقي في القطاع الشعبي لما يجب أن تسير عليه الأمور وعدم إدراك الأولويات .

ـ السعي للحصول على ( مكاسب شخصية ) لهثا وراء السلطة والمال .

ـ وجود خلل متأصل في المجتمع لن يمكن معه إصلاح الحكم ما لم يصلح المحكومين ، لأن من سيكونوا في الحكم أولا وأخيرا هم نتاج هذا المجتمع .

ـ وجود سلطات كثيرة تتنازعها ( أيدلوجيات و أهداف متفرقة ) ، ولا يمكن لسفينة أن تنجو في بحر هائج  و هي  يقودها  ألف رُبَّان .

وأخيراً ...

أن كل ما ذكرته هو ليس حكرا على ( مصر ) وحدها ، فهو يتكرر في (  سوريا ) و ( اليمن ) و ( تونس ) و كذلك ( ليبيا ) الذي يبدو التدخل الأجنبي فيه جليا واضحا .

أن طرحي لما طرحت ليس من باب ( النقد لمجرد النقد ) ، وليس لبث ( الروح الانهزامية )  ، بل على المقاتل أن يدرك حقيقة المعركة ليعلم متى ( يكر ) و متى ( يفر ) ، وذلك لبلوغ الهدف المنشود بأقل الخسائر الممكنة .