الأربعاء، 11 نوفمبر 2009

الخصام والموت


" ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت ،
 كانوا إذا مدّوها أرخيتها ، وإذا أرخوها مددتها ".

الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان .








نعيش في هذه الحياة في مجتمع ، و مهما كانت نوع شخصيتنا أكانت اجتماعية أم لا ، فأنه لابد لنا من أن تربطنا مشاعر ما مع البشر ، ولابد أن يكون في حياتنا أشخاص لهم منزلة طيبة في قلوبنا مثل الوالدين أو الأخوة أو الأصدقاء أو الأبناء أو الزوج أو الزوجة .. إلخ .

لكن الحياة لا تمضي بصفاء دوما ، فلابد أن يعكر صفوها كدر ما ، فهذا من المسلمات المفروغ منها ، لكن هل نقف عند هذه المسلمات ؟؟
تمضي الأيام ونحن نأمن غوائلها ، وفجأة تكر علينا بمصائبها ، فجأة تجد نفسك قد سلبك الموت شخص عزيز غالٍ ، والموت زلزال يهز كيان البشر ، فيعمل الحزن الذي يملأ  قلبنا حينئذ على إعادة شريط الذكريات مع ذلك الإنسان الذي فقدناه ، كل الذكريات : الخير والشر ، السعادة والحزن ، الخصام والصلح ، ثم نتوقف كثيرا ـ بغير إرادة منا ـ مع تلك اللحظات التي خاصمنا فيها ذلك الشخص وخاصة أن كان غال على قلبنا ، و حتى الذي نحمل له مشاعر عادية ، و أحيانا كثيرة حتى من كنا نحمل له العداء . نتوقف و نقول  بندم حارق :

ليتنا لم نضيع العمر في خصام ،
ليتنا لم نتخاصم ولا لحظة واحدة ،
من كان يعلم أنه سيرحل عنا بهذه السرعة ،
لو كنت أعلم أن حياته قصيرة هكذا لما خاصمته ولا غضبت منه ،
ليته يعود للحياة لن أخاصمه مهما فعل ،
اللهم شغبه ولا فقده ....

لكن وسط عجاج الحزن والألم والندم تبقى حقيقة واحدة هي الحاضرة ، وهي أنه قد رحل عن عالمنا ، وأنه لات حين مندم .

لنأخذ وقفت مع أنفسنا ، لحظات صادقة نتساءل فيها :

كم من عمرنا يضيع في الخصام مع من نحب ؟
ماذا نستفيد من تلك العزة التي تأخذنا بالإثم في الخصام ؟؟
ماذا حققنا من كل تلك الأيام التي ضاعت في تلك السخافات ؟
ألم يكن في وسعنا حقا تجاوز تلك الخصومات ؟
ألم يكن من الممكن أن نغضب ولكن دون أن نتخاصم وتحدث قطيعة بيننا ؟
ألم يكن يوم واحد أو ساعات كافيه حتى يحاول أحدنا أن يُسكت غضبه ، لتعود بعد ذلك المياه إلى مجاريها ؟
ماذا كان سيحدث لو أننا حاولنا بشجاعة أن نتفادى الغضب ، وعدنا لبعضنا لنقول حبا في الله : إنني أسف ؟
ألم يكن كثير من ذلك العتاب وتلك الكلمات التي تثير حنق الأخر ألم نكن قادرين حقا على تجاوزها وتفاديها حتى لا نزيد اشتعال الموقف و احتقانه ؟
إذا أغضبك من إنسان صفة أفلا يمكنك أن تتجاوزها لتنظر لصفة أخرى فيه تعجبك ؟
ألم تفكر في لحظة أنه : ربما يكون هذا الإنسان أيضا يكره مني صفات قد لا أنتبه لها أنا ؟
ألم تفكر أنه : ربما أن هذا الإنسان يتجاوز عن بعض ذنوبي في حقه ، أفلا أتجاوز عن ذنوبه ؟
ألم تفكر في يوم أن تصفح وتعفو حباً في الله ، فتكظم غيظك ، ليبدلك الله خيرا من هذا ؟
هل تعرف حقا ما هو الصفح والعفو ؟
هل تعتقد أنك قد صفحت عن ذنب إنسان أخطأ في حقك ، وأنت مستمر في كل فرصة تذكر ما فعله بك ؟
أن فعلت هذا فدعني أقولها لك بصراحة : أنت لم تسامحه .

الحقيقة كل هذا ممكن أن توفرت رغبة الإنسان ، كل هذا ممكن لأن الله كَرَم بني البشر بالعقل فميزه عن الحيوان به ، لذا هو في الأصل سيد نفسه ، وسيد مشاعره .

أن من يعتقد أن الصفح والعفو سذاجة ، فهو شخص غبي ، ولا يثق في الثواب من الله أبدا ، فمن فعل شيء لله عوضه الله .

                      و فاعل الخير لا يعدم جوازيه
                                             لا يذهب العُرف بين الله والناسِ

وليس الشجاعة أن تغضب ، فأكثر الناس يغضبون  و ينجرون خلف غضبهم ، لكن الشجاعة الحقيقية تكمن في مقدرتنا على امتصاص غضبنا ، وتمالك أعصابنا ، ومن الشجاعة أيضا أن تعترف بخطئك ، وأن تملك شجاعة على الاعتذار . قال صلَّ الله عليه وسلم : ( ليس الشديد بالصرع إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ).

إذا كرهت من حِبّك خُلق ، رضيت منه غيره ، وأجعل ولو خيط صغير يربطك بأحبتك ، ليشفع لهم عندك ، مثلا ليشفع حبك لأولادك لتصفح عن زوجتك ، وحاول أن تحيى معها محبا ، وليشفع حبكِ لأولادكِ لتصفحي عن زوجكِ ، لتكوني له محبةً ، وليشفع حبك لوالديك عندك لتصفح عن شقيقك ، وليشفع حبك لله عندك لتصفح عن صديقك وجارك وزميلك ، وهكذا .

                    و إذا الحبيب أتى بذنب واحد
                                                جاءت محاسنه بألف شفيع


أنت الوحيد القادر على أن تبقى مُحِباً ، وأن تصفح عن الأخر ، ولو أن كل منّا فكر هكذا ، لوجدنا أن الصفح صفة غالبة في حياتنا ، ونحن أحق بها كمسلمين لأننا أمة الصفح والتسامح ، يقول المولى جل سبحانه في علاه :{ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }[1] . أننا نعيب على ملوكنا ضعف سياساتهم وتدبيرهم ، لكن هل وقفت للحظة للتدبر سياستك في بيتك ، وفي مجتمعك ، ومع من حولك ؟؟

الحياة كلها تتطلب العمل بالحكمة والسياسة  "والحكمة ضالة المؤمن" ، لا تخدع نفسك بأنك كامل ، ولا تخدع نفسك بأنك حقير أو ناقص ، بل كون حكيما ، وعين الحكمة الوسطية ، أنقد نفسك  نقدا  بناءً  لترتقي بها ، وسُس حياتك ، لأنك فيها الراعي والرعية .

وأخيرا ..

نصيحة محب مجرب ، لا تسمح أن يأتي عليك يوم تندم فيه على خصام حبيب ، فتبحث عنه فلا تجده ، و قد لات حين مندم .

لا تطلب أن يكون الآخرين ملائكة بينما أنت لست كذلك .

قف ساعة تأمل صادقة لما حولك وستعرف الطريق ، فالتأمل عبادة الأنبياء .

قال نبيكم صلَّ الله عليه وسلم : (  ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصدقة والصلاة " أي درجة الصيام النافلة وصدقة نافلة والصلاة النافلة " ، فقال أبو الدرداء : قلنا :  بلى يا رسول الله .  قال : إصلاح ذات البين ) .

فتذكر أن  "خيرهما الذي يبدأ بالسلام" .

وتذكر أن من صفات المنافق  " إذا خاصم فجر "  أي تجاوز الحد في الخصام والقطيعة والكلام البذيء وغيره من الأمور التي تزيد الموقف سوء .




[1] - آل عمران 134