"وَسِوى الرّومِ خَلفَ ظَهرِكَ رُومٌ
فَعَلَى أيّ جَانِــبَــيْكَ تَمِيلُ"
أبو الطيب المتنبي ، شاعر عربي عباسي
كانت الدعوة للجهاد في أفغانستان أهم من الجهاد في فلسطين ، و كان الانتقام من علي عبدالله صالح أهم من الانتقام من الصهاينة في فلسطين ، و اليوم أخراج الحوثيون و علي عبدالله صالح أهم من إخراج الصهاينة من فلسطين.
الوحدة اليمنية و التي تمت في 22 مايو 1990م ، و التي انتهت بعودة انفصال الجنوب مرة أخرى في 21 مايو 1994 م ، بسبب خلافات كثيرة بين الرئيس اليمني علي عبدالله صالح ـ حاكم اليمن الشمالي قبل الوحدة ـ و نائبهِ علي سالم البيض ـ حاكم اليمن الجنوبي قبل الوحدة ـ و التي بدأت بشكل أكثر بعد سفر الأخير للقاء مسئولين أمريكيين في أمريكا بدون علم رئيسه .
يومها كانت لا تزال أمريكا تؤيد الوحدة و بقوة ، لذا لم تستطع الدول الخليجية التصريح بتأييد الانفصال الجديد لليمن الجنوبي ، يومئذ تكاد تكون اجتمعت دول الخليج كلها ضد اليمن لمنع الوحدة ولتذكية الخلاف لولا الرغبة الأمريكية في وحدة اليمن لأسباب تخص مصالحها ، وها هي تتكرر الرغبة و الفرصة لتجزئة اليمن مرة أخرى ، و لكن هذه المرة بمباركة أمريكية ، فالنفط اليمني سيكون أشهى و أنفع لأمريكا أن وجدت له بوليصتي تأمين بدل بوليصة واحدة ، فيكون التحكم في البوليصة سهلا و أكثر نفعا لها.
تملك اليمن الموقع الجغرافي و الاستراتيجي و القوة البشرية و الثروة النفطية ، فهي يمكن لها أن تكون صاحبة السيادة في الجزيرة العربية لو شاءت . لكن العجيب حقا في اليمن هو أن الولاءات فيها تتغير بسرعة البرق ، فالجهل الشديد و نقص الوعي السياسي لزعماء القبائل ـ وهم من يملك القوة الحقيقية في الداخل ـ في اليمن تجعلهم لا يعلمون تماما ماذا عليهم أن يفعلوا ، و أين يجب أن يقفوا ، كل ما يفعلونه أنهم يميلون حيث تكون مصالحهم القبلية حاضرة فقط ، لذا فالولاءات غير ثابتة و غير واضحة . أمور كثيرة تجعل اليمن ـ مثل لبنان ـ تسلم قدرها لآخرين يعبثون بها كقطعة شطرنج ، ويديرون معاركهم فيها ، معارك لا شأن لليمن فيها ولا مصلحة .
كل ميزات اليمن كانت لعنة عليه ، فالكل كان يريد له التجزئة مرتين ، ولكن يتدخل القدر فتنجو اليمن من الفرقة ، ولكن هذه المرة يجتمع الجميع لتصفية حسابات قديمة في اليمن ضد علي عبدالله صالح ، وضد إيران أيضا ، و التي كان دخولها في الخط هو الشعلة المطلوبة ليأخذها الخليجيون باليمين و يحرقون بها كل اليمن ، ويشطرون اليمن أجزاءً كثيرة.
وكما أنطلق الجميع لتقويض الوحدة اليمنية يوم نشب النزاع بين الزعيمين الكبيرين في عام 1993 و الذي نتجت عنه الحرب الأهلية في اليمن عام 1994م و انتهت بهزيمة البيض ليخرج من اليمن إلى سلطنة عُمان لاجئا سياسيا ـ و يومها كان لكل دولة أسبابها للقضاء على الوحدة اليمنية في عام 1993 م ـ فإن الآن في عاصفة الحزم وما تبعها ، يعود المتربصون القدامى لتحقيق ما لم يحققوه يومذاك .
السعودية ترى أن وحدة اليمن خطرا على مصالحها و تهديدا لهيمنتها في المنطقة ، و قد قبلت الوحدة مكرهة في التسعينيات من القرن العشرين ، لكنها ـ أي الوحدة ـ تمت برضا حكومة الكويت إلى أن حدثت حرب الخليج الثانية في أغسطس 1990م أي بعد إعلان الوحدة اليمنية بشهور قليلة . وقد أيدت اليمن صدام حسين في غزوهِ الكويت ، لكن اليمن دفعت الثمن باهضا بعد ذلك . حيث طُرِد أكثر من 800 ألف يمني من السعودية و 300 ألف من الكويت. و تم تصنيفها من دول (الضد).
كانت سياسة الكويت بعد حرب الخليج الثانية سياسة تشفي ، كان التشفي يملي عليها سياستها المرحلية. لذا صنفت علاقاتها بين دول (المع) و دول (الضد) ، كانت اليمن من دول الضد ، و إلى اليوم يبدو أن صباح الأحمد لم ينسى ما حدث ، فربما تدخل صباح الأحمد اليوم ـ في عاصفة الحزم ـ في اليمن عائد لقضية تأييد اليمن لصدام ، فقد كان صباح الأحمد هو وزير الخارجية ، و كان من الداعمين للوحدة اليمنية و قد قدمت الكويت مساعدات مهمة جدا لليمن من بناء مدارس و مستشفيات و وساطات سياسية ، و كان لليمنيين مكانه بفضل صباح الأحمد عند الكويتيين . بعد التحرير صارت الكويت تتعامل بسياسة تشفي تجاه الجميع . ويبدو أن صباح الأحمد لم ينسى و وجد الفرصة سانحة الآن ، و خصوصا أن جميع الجهود و المال الذي دفعهُ للجنوب في الحرب الأهلية اليمنية في 1994م ذهب هباءً بعد هزيمة الجنوب ، حيث فشلت مساعي الكويت ـ ومن معها من دول الخليج ـ لتقسيم اليمن تشفيا منها على موقفهِ تجاه الغزو العراقي لها.
أما قطر التي كانت أدوارها بسيطة في حرب الخليج الثانية ، و كانت أكثر دول المجموعة الخليجية التزاما بالسياسة السعودية . فقد أصبحت ـ قطرـ الآن حاضرة بقوة في كل الأحداث السياسية في المنطقة ، فقد شبت قطر عن الطوق السعودي بعد حوالي عشرين سنة من الاستقلال ، فبعد حرب الخليج الثانية صارت أغلب سياساتها الخارجية هي ردة فعل لسياسة السعودية.
قطر تقدم نفسها حامي للدين ونصيرة المظلوم و تستخدم شيخ دين مشهور كان يعد من علماء الأمة ، إلى أن صار من علماء السلطان ، يتغير خطابه و فتواه بتغير سياسة حكومة قطر ، تشارك قطر في عاصفة الحزم مع السعودية رغم ما كان بينهم من خلاف حاد بلغ حد سحب السفراء ، لكن فجأة عادة المياه لمجاريها ، و عربون المحبة كان قصف اليمن ، والتي كانت الاستخبارات القطرية حاضرة فيها من بواكير الانتفاضة الشعبية اليمنية فيها شأنها في ذلك شأن ما فعلت في مصر و سوريا و ليبيا و العراق.
عاصفة الحزم ، و التي تم توجيهها ظاهريا للقضاء على التمرد الحوثي ، أُلبست ثوبا طائفيا خالصا ، فصارت دول التحالف الوهابي تظهر في الإعلام كحامية للدين ضد الحوثي "الرافضي الشيعي الكافر" كما يسميه الإعلام الوهابي و جمهوره ، كيف أقنع جمهوره بهذا الأمر إلى حد بلغ معه أن أم طيار تم إسقاط طائرته في اليمن تقول أمه أنه ذهب ليحمي الكعبة ؟؟ ، لكن كيف تستطيع أن تقنع المثقف العربي أن الحلف يهتم بالدين و ينصره ، و أنه ضد إيران فقط لأنها شيعية ؟. الحمقى وحدهم يصدقون هذه الكذبة.
قطر التي قال وزير خارجيتها مرة : ( إن قوة إيران هي من مصلحة المنطقة ) . و التي قام ولي عهدها ـ آنذاك ـ حمد بن خليفة آل ثاني بتوقيع اتفاقا يقضي بتزويد قطر بمياه الشرب من إيران عبر أنابيب تمر تحت البحر ، و تم التفاهم بين طهران و الدوحة حول تقاسم حقول غاز الشمال الواقعة في مياه الخليج بين البلدين . كان في 1991م في طهران ، و لم تكن أنقضت سنة على حرب الخليج .
و بلغت درجة العلاقة بين قطر و إيران أن عرضت قطر الوساطة بين الإمارات وإيران في قضية الجزر الثلاث ، و لأجل هذا في 17 ديسمبر 1993 م زار أمير قطر الإمارات . و هذه الزيارة كانت قد تأجلت أكثر من مرة بسبب الخلاف القطري - الإماراتي حول التقارب القطري - الإيراني .
أين كان الدين وقتها ؟ وآل ثاني يحسبون على التيار الوهابي في الخليج ، هم و القواسم في الإمارات. أليست المصالح السياسية لا تعترف بدين ؟ مهما حاول علماء الحكام أو ما يعرف ب (علماء السلطان) أيجاد تبريرات "شرعية" لأفعال و قرارات السياسيين.
أليست قطر هي التي عقدت صفقة الغاز الطبيعي بينها و بين إسرائيل ( الصهيونية الغاصبة) ؟ ، قطر التي اتخذت سياسات متخبطة كل الهدف من ورائها أن تثبت لذاتها و للعالم أن سياساتها مستقلة عن القرار و السياسة السعودية ، فسعت بكل جهدها للوصول لأمريكا عبر التقارب مع الكيان الصهيوني ، كان كل شيء في العلن ، ولم تكن قطر تستحي ، وهي التي صرح وزير خارجيتها حمد بن جاسم بن جبر في 29 يناير 1994م قائلا : ( أن قطر ستستقبل الدبلوماسيين الإسرائيليين كغيرهم من الدبلوماسيين). وفعلا ففي 7 أكتوبر 1993 م ،أكدت صحيفة (هآرتس) الإسرائيلية أن مسئولاً إسرائيلياً كبير زار قطر واجتمع مع كبار المسئولين في الدوحة.
ثم بعدها كانت صحيفة (الشروق) القطرية أول من أجرى لقاء صحفي مع وزير الخارجية الإسرائيلي ـ كان حينها الوزير هو شمعون بيريز ـ في 15 أكتوبر 1993م عن طريق مُراسلها في القدس ، و كان هذا أول لقاء صحفي تجريه صحيفة خليجية مع مسئول إسرائيلي .
و في حادثة الرسوم المسيئة للنبي محمد صل الله عليه و سلم ، التي أعقبتها حادثة (شارلي إيبدو) في يناير 2015م ، ماذا فعلت قطر لتنصر نبيها بما أنها تقدم نفسها حامي للدين و داعم للجماعات الدينية ؟
لدى قطر استثمارات بقيمة (مليار دولار) في فرنسا ، وهو مبلغ ليس سهل وخصوصا مع الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها فرنسا ، كان بإمكان هذا المبلغ أن يكون ورقة ضغط على فرنسا لتحترم ديننا ، كما تحترم اليهود فيها برغم زعمها أنها دولة علمانية ، الأمر لم يقتصر على أن قطر لم تهتم بفعل شيء يحسب لها عبر استثمارها في فرنسا ، بل أنه تم في الدوحة في 4 مايو 2015 م ـ أي بعد أشهر قليلة من حادثت الرسوم المسيئة للنبي ـ توقيع صفقة لشراء 24 طائرة مقاتلة من طائرات (رافال) الفرنسية ، الصفقة بقيمة (سبعة مليارات) دولار ، إضافة لعقود أخرى جميعها كفيل بإنعاش الاقتصاد الفرنسي ، ذلك الاقتصاد الذي يسعى الناس لضربه عبر مقاطعة المنتجات الفرنسية لتأديب فرنسا وانتصارا لنبيهم عليه السلام.
الحرب في اليمن اليوم ليست حرب لنصرت الدين ، و ليست حرب ضد إيران ، هي حرب أمريكية لتقسيم اليمن للاستفادة من نفطها و موقعها ، و لكن تقوم بها ( البقرات الحلوب) بالنيابة عن أمريكا التي تكتفي بتأمين الحماية من بعيد دون أن تتورط هي بنفسها في الحرب ، إضافة لتأمين تمرير مشروعية الحرب الدولية ، بينما تقوم الحكومات الخليجية بتأمين الشرعية الدينية للحرب ، و لكل واحدة من تلك الحكومات هدفها. لكن بكل تأكيد لا يوجد الهدف الديني ضمن أجندة أي منها.
لو كان الدين هدفهم لكانت فلسطين أولى ، أو بورما ، و لو كان رفع الظلم لكانت بلوشستان أولى ، لكن هيهات . يدعي ملك الأردن أنه يريد حماية حدود السعودية و أمنها ، أن حدود بلاده أولى . و يدعي ملك المغرب أنه يريد حماية الشرعية ، أن استعادة الصحراء المغربية أولى ، و يقول محمد بن زايد أنه يريد أن يضرب إيران ، فجزره أولى ، لا أتوقع أن السيسي سيتحدث عن استعادة الحكومة الشرعية في اليمن. تقول العامة : ( الصقر يصقر في داره).
ستنتهي الحرب ، و ربما يعاد تقسيم اليمن ـ إلا أن تدخلت ألطاف الله وردت كيد هؤلاء المعتدين في نحورهم ـ و سيعود هؤلاء المعتدون ليتناحروا بينهم ، وليكملوا صراعهم ، بينما أواطنهم تزداد تخلفا ، وفسادا إداريا و ماليا ، و بينما أفضل وطن من أوطانهم ليس إلا بوليصة تأمين للدول الغربية في أزماتها الاقتصادية ، و مجمع مخلفات له ، و حديقة خلفية تضع فيها الدول الغربية مشاريعها بالوكالة ـ تحديدا المشاريع الثانوية ـ فبينما يتم في الغرب تنمية العلم بشكل حقيقي و احتواء العباقرة المهاجرون من أوطاننا ، تنمو أوطاننا على الحياة الاستهلاكية و تنمية اقتصادية هشة و هزيلة تعتمد في غالبها على السياحة و العقار ، إضافة إلى أسواق مالية هزيلة ما هي إلا مساند للأسواق المالية العالمية ، ولا توجد لدينا مشاريع إستراتيجية ولا مشاريع إنتاجية حقيقية ، ولا استثمار حقيقي للخيرات الزاخرة في الوطن ، أن كل هذا الاقتصاد محض ( زبد ) { فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء }.
قبل أن تصفق لعصبيات جاهلية بكل جهل ، أنظر حولك ، أفهم ماذا يحدث ، ثم أحكم . أن كنت لا تستطيع أن تنصر الحق ، فلا تصفق للباطل. هل سألت نفسك :
كيف عاد الحوثيون للواجهة ؟ و من أمدهم بالسلاح و المال ؟ كم هي نسبة الحوثيون مقارنة بشعب ضخم مثل اليمن يصل تعداد القبيلة الواحدة لأربعة ملايين و أفرادها يخضعون بالطاعة التامة لزعيمها ؟ ألا يوجد حل غير التدمير و سفك الدماء ؟
بالطبع ستقول إيران جلبتهم ، لأنك لن تفكر ، ستكتفي فقط بترديد ما قاله الساسة . إيران لا تورط نفسها أبدا إلا أن وجدت اللقمة سائغة ، كما فعلت في العراق ، و العراق بلد نسبة الشيعة التابعين بالولاء له أكبر بكثير من اليمن ، ولا يفصلها سوء حدود بسيطة يمكنها خلالها تمرير ما تريد بدون أي رقيب في وطن منهار ـ في أواخر عهد صدام حسين تحديدا ـ ولها معه ثأر عظيم ، لكنها متى تدخلت؟؟ عندما أنهى الحمقى كل شيء ورثتْ هي التركة كاملة ، وكانت لقمة سائغة سهلة.