السبت، 12 فبراير 2011

أن تدبيرَ الإله عجيب


"أهوى الحياة كريمة لا قيد ، لا
 إرهاب ، لا استخفاف بالإنسان
فإذا سقطتُ سقطتُ أحمل عزتي
 يغلي دم الأحرار في شرياني"
هاشم الرفاعي . شاعر من  مصر .






سبحان الله كيف يدبر الأمور فلا يقوى البشر على تغير شيء ، وكيف يهيئ للأمور لتصير واقعا دون أن يشعر الإنسان ، أن نجاح الثورة المصرية ( ثورة الكرامة ) حق لأهل ( تونس ) أن يفخروا بنجاحها ، فبعزمهم شتتوا سطوة الطغيان ، وكشفوا عن جبن وضعف الطغاة ، فـقتلوا الخوف في قلوب جماهير الأمة ، فحق لكم يا أهل تونس بأن تحتفلوا بهذا النصر وأن تفخروا ، فأنتم من أشعل فتيله من حيث تدرون ولا تدرون ، وحق لنا في هذه الأمة أن نسعد به أيضا .

كنا نحبس الأنفاس ونرسل الدعاء لله عز وجل فهو ملك الملوك وهو فوقهم والقادر عليهم ، وبيده كل أمر ، وكنا نوقن أنه عز وجل لن يخذلنا ، فحاشاه سبحانه أن يرد أكفنا من سنِّي فضله فارغة ، وحاشاه أن تضيع دماء من قُتلوا ظلما هدرا ، فيقال : ( أن الله يساعد من يساعدون أنفسهم ) وهذا ما كان ، وأنني في هذا الموقف اليوم لا أخفي سعادتي الغامرة .

أنها أمتي أفلا يحق لي أن أسعد ؟ بل أن أنتشي فرحاً .

سجدتُ لله شكرا أنْ استجاب لدعائنا له بأن ينزاح الظلم عن مصر ـ وبعزته تعالى ـ سينزاح عن باقي أمتي ، بالأمس كنت أتابع خطاب مبارك ، خطاب لا يوصف إلا استخفاف بالعقول ـ بالرغم من محاولات التجميل التي حاول أن يقوم بها البعض لذلك الخطاب ـ . ما كان لنا ألا أن نرفع أكف الدعاء في جوف الليل ضارعين لله عز وجل بقوته وسلطانه المكين أن يهز عرش ذلك الطاغية ، فسبحانك يا ذا المجد سبحانك .

اليوم أكتب مقالي في توجه غير معتاد ، فمنذ أن أنشئت مدونتي هذه كان هدفي أن يكون هدفها توعوي وخاصة في المجال السياسي والاجتماعي ـ و والله ما أردت من ذلك جزاء ولا شكورا ولا شهرة ولا مجدا ، بل واجب رأيت أنه ابسط ما يمكن لمثلي أن يقدمه لأمته ، ولأيماني الراسخ أن المعرفة ـ  فالعلم شيء والمعرفة شيء آخر ـ هو سبيل لأمةٍ كريمةٍ ذات أركان ثابتة .

وكنت كلما تأملتُ حولي أحوال أمتي أصابني جزع ويأس فأعزم أن لا أكتب ، ويزين لي الشيطان أن لا فائدة مما تكتب ولا فائدة من القلم ، ثم تستثيرني المواقف فلا أجد إلا قلماً أخط به . لكن حالي كما قال الشاعر :

قيثارتي مُلِئَتْ بأنَّاتِ الجَوُى
لابدَ للمكبوت من فيضانِ


 حين انزاح ذلك الكابوس لا أنكر إني من فرط سعادتي سجدة شكرا لله ، حامدا إياه على فضله ـ سبحانه ـ وعلى عدله ، وهاأنا أسطر سطور مقالتي هذه ليس لأذكر هذه الأمورـ التي هي واجب وأحوال بديهية لمن يحب وطنه ـ ولكن لأشارككم أمرين :

الأول /  عبرة عجيبة نغفل عنها نحن البشر ، فورب الناس طالما استوقفني عجيب تدبير الله ، والله والله أيمانا مغلظة أنه لأعظم ، وأنه أمجد مما يتصوره عقل بشر ، ولكن أنما نحن بشر ، والنسيان طبعنا الأزلي :


وما سُمِّىَ الإنسانُ إلا لنَسْيِه
و ما  القلبُ إلا  لأنه  يتقلّبُ


لكن نسيان البشر سيئ وليس ايجابي في أغلبه ، لأننا ننسى الحسنات ونتذكر السيئات مهما طال عليها الأمد ، لذا دوما نغفل عن عظمة الله ، وننسى فضله وننسى العبرة بعد أن تَمُرَ العبر ، و هذا مغزى ما عناه الشاعر بقوله :

نُراع إذا الجَنَائِز قابلتنا
و يُحزِنُنَا بُكَاءُ البَاكِياتِ

كروعةِ ثُلَّةٍ لمَغَارِ سَبْعٍ
فلما غَاب عَادتْ رَاتِعَاتِ


العبرة في هذه الموجة التي تجتاح الأمة ( موجة الكرامة ) ، نرى كيف أن الله حين أراد أن يزلزل عُرُوش الطغيان استجابة لدعاء المظلومين من أبناء هذه الأمة كيف أنه عز وجل دبر الأمر من حيث لا يدري الطغاة { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ }[1] . فما أتتهم إلا بغتة { فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ }[2]


أنظروا كيف أذلهم الله بأضعف خلقه ـ سبحانه ـ زلزل عُروشهم بشعوبهم التي أذلوها ونشروا فيها الجهل والأمية والفقر والتضليل ليضمنوا كراسيهم ، ورغم ذلك قام نفس هذا الشعب المقهور المغلوب على أمره لإخراجهم صاغرين . { فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ }[3]


لا  تحقرنَّ صغير في معاملةٍ
أنَّ البعُوضة أدمتْ مقلة الأسدِ

المتأمل للأحداث يرى كيف ـ فجأة ـ أنقلب الحال في تونس من رجل بسيط ، لم ُيسقط طاغية تونس بل حتى مصر ، من كان يتوقع أن يكون الإعصار الذي يقتلع حسني مبارك سيهب من تونس ، سبحان الله ، وسبحان الله كيف هبَّ الناس من المحيط للخليج مهلليل فرحين مستبشرين بما حدث في تونس متفائلين بأنه بداية خير ، كيف استشعروا ذلك ؟  بل كيف أيقنوه ؟! .

رغم أن سكان القاهرة وحدهم عشرون مليون إلا أن ثلاثة ملايين كانوا بشجاعتهم وعزمهم و وعيهم قادرين على هزيمة الظلم والفساد ، وكم من جالس في بيته وقلبه مع الثوار لكنه لم يكن بشجاعتهم وجرأتهم على الباطل ، رغم أن النظام الفاسد حاول أن يروج إلى أن الصامتين ـ صمت أهل القبور ـ هم مؤيدين لمبارك لذا لم يخرجوا مع الثائرين . ولكن تلك القلة كانت خيرا كثيرا .


أما الأمر الثاني /  فهي الخشية مما سيكون ( بعد رحيل ) الطاغية و طغمة الفساد في مصر ، يقال " الهزيمة يتيمة وللنصر ألف أب " سيلهث كثيرين ـ من أهل النفاق ـ لمحاولة جعل أنفسهم الآباء الشرعيين لانتصار ثورة شباب مصر ، فكم من متربص ليعلم من المنتصر ثم يقول أنا معكم يناله من الغنائم قسطا . وكذلك ستسعى أمريكا والصهاينة لأن يأتوا ( بنسخة لا تختلف ) عن الرئيس المخلوع لحماية مصالحها  ليس في مصر وحدها بل في المنطقة ككل .

ومن كل قلبي أقول يا أهل مصر فيكم مخلصين لا تنكرهم عينٌ صحيحة فإياكم أن تفرطوا في دماء شهدائكم ، و إياكم أن تظنوا إن ثورتكم انتهت بل هي الآن بدأت بتحديات اكبر . وأننا نثق ببصيرتكم ووعيكم فيما رأيناه منكم .

أقول لكم ( أحذروا الجيش )  ولا يغرنكم ماضيه المجيد ، فأن قياداته غير مأمونة ، ولا يغرنكم قول القائل أن الجيش لا يمكن أن يخون ، فإنما الجيش مكون من بشر ، والبشر يستزلهم الشيطان . ففي هذا المقام " حسن الظن ورطة و سوء الظن عصمة " .

وأقول للمخلصين من أهل القيادات والفكر لا يجوز لكم أن تتخلوا عن المسئولية حتى ترسي سفينة الثورة في بر الأمان ، أنتم محاسبون أمام الله أن تهاونتم وخذلتم الناس ليس في مصر و أنما في كل أمتكم ، فأمتنا جسد واحد أن تداعى فيه طرف اهتزت باقي الأطراف وآلت للتداعي ، فاحذروا أن تكونوا خصوم الأمة أمام الله .


في هذه الظروف التي تمر بها أقطار الأمة أتأمل حالة التلاحم الروحي بين أبناء أمتي ، فأُعْجَبُ به أعجَابا ـ والله ـ يثير الفرح في داخلي ، فأقول ( اللهم أدمها علينا من نعمةٍ وأحفظها من الزوال ) ليس الأمر في هذا التلاحم الروحي حالة عابرة نضعها ضمن أطار ( أن المصائب يجمعنَّ المُصَابِينا ) كما يقول أحمد شوقي في شعره ، بل هي حالة طبعية لأمة تُشكل جسداً واحداً ، و تتشارك الدين والدماء ، واللغة و الانتماء . وعندي على ذلك ـ من الأحداث الكثيرة التي مرة بها الأمة مؤخرا ـ شاهدٌ  و دليلُ .


وأخيرا ...


الحمدلله على نصره العزيز وأساله سبحانه أن يتم على الثائرين في مصر وتونس وكل الأمة نصرهم ويشد أزرهم ويعصمهم من زلات الشيطان ، ومن دسائسه . وأدعوه أن يدوم التلاحم الروحي بين جماهير الأمة فمهما فرقت بينهم الحدود والسياسة فهم على قلب واحد ، و همٍّ واحد .

وأتمنى أن أرى العراق وقد نفض الغبار عن  شعث رأسه و رفعه شامخا ، وأن يتقدم أبنائه للنصر شامخين رافعين الرؤوس كما تقدم ( صدام حسين[4] )  للموت شامخا رافع الرأس فأذهل العقول برباطة جأشه وشموخه . فوالله أن الحال فيها محزن كلما شاهدت حالها تذكرت أبياتَ أبي تمام في بغداد إذ يقول :

لقدْ أقـامَ علـى بغـداد ناعيهـا
فليبكها لخـرابِ الدهـرِ باكيهـا

كانَتْ على ما بِها والحَرْبُ مُوقَدَة ٌ
والنّارُ تُطْفِىء ُ حُسْناً في نَوَاحِيهـا

تُرجى لها عودة ٌ في الدهرِ صالحة
فالآنَ اضمرَ منها إلياسَ راجيهـا

مِثْلَ العَجُوزِ التي وَلّـتْ شَبِيبَتُهـا
وبانَ عنها كمالٌ كـانَ يحظيهـا

لَزَّتْ بِها ضَرّة ٌ زَهْراءُ واضِحَـة ُ
كالشمسِ أحسنُ منها عندَ رائيهـا


[1] - آل عمران54
[2] - الأعراف95
[3] - النحل34
[4] - لستُ من أنصار صدام حسين ، لكن وجب لنا أن نذكر محاسن الرجل ، فحقا كانت تلك اللحظات ترينا صورة من صور الرجال العظماء و الفرسان العرب النبلاء القدماء لم نعرفها إلا في الكتب وهو وحده فقط جسدها لنا مشهدا عيانيا .

هناك 6 تعليقات:

رشيد أمديون يقول...

السلام عليكم

الحمد لله وسبحانه وتعالى، يؤتي الملك من يشأ وينزعه ممن يشاء..
اليوم قد احسسنا بالفرحة فعلا فقد خنقنا الرجل بقرارته البطيئة المميتة، والتي لعبت على أعصابنا كثيرا. اليوم يحق أن نقول للشعب المصري مبروك.
وكما تفضلت أستاذ أفلح، فالمرحلة القادمة يجب أن تكون مرحلة حذر فالسفينة مازلت لم تستقر.

موضوع جميل مليئ بالمشاعر النبيلة أتجاه مصير الأمة، وكما يضم اشارات مهمة.
حياك الله، وبارك فيك.

admin يقول...

ألف مليون مبروووووووووك للشعب المصري هذا الانتصار وتحرره أخيرا من نير الطاغية..

ورحم الله شهداءكم، شهداء الحرية والكرامة..

أخي الفاضل،

ما نراه اليوم في تونس ومصر إلا بداية لتحرر باقي الشعوب المقهورة، ليس فقط في العالم العربي، بل العالم بأسره.. فتورة هذين البلدين سيغيران مفهوم هذا المصطلح لذى الغرب، لأنه كان يعتبر الثورة رديفا للعنف والسلاح، والآن شاهدنا ثورة بيضاء، لم يستعمل فيها أي سلاح..

والآن، سيبدأ الاختبار الحقيقي لحصيلة هاتين الانتفاضتين المجيدتين، فأسأل الله تعالى أن يخرج العاقبة على خير، وأن يحققا ما حلما به من ديموقراطية وكرامة وحرية حقيقية..

كنت هنا

lina يقول...

بسم الله و الصلاة و السلام على رسول الله

كلمات طيبة اخي الفاضل ..بارك الله فيكم
في رايي ان المرحلة الحساسة في مصر هي الان بعد مبارك ..لا يجب ان تذهب تضحياتهم سدى..و الله المستعان

لينا.

أفلح اليعربي يقول...

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أخي ابو حسام

تحية طيبة

أي والله ، ولكن ما تسرب من أخبار يكاد يؤكد أن الرجل تعرض لأنقلاب داخلي من أعوانة بإيعاز من أمريكا ولم يتنحى الرجل لوحدة ، وهذا ربما يبرر سبب عدم تلاوته نص التنحي بنفسه ، وكذلك وقوعه في حالة مرضية منذ اليوم الثاني لتنحية ، حيث تواترت أخبار أن خبر تنحية جاءه وهو في الطائرة في طريقة إلى شرم الشيخ . والله أعلم .

أشكر لك مرورك ، وأشكر لك تعقيبك ، ونسأل الله أن يسلم أمتنا من كل شر


لك تقديري

أفلح اليعربي يقول...

أخي خالد

تحية طيبة

أشكر لك روحك الوطنية ، ونعم نبارك للشعب المصر أنتصاره ، وأكثر منه نبارك له وعيه وحرصه على التأكد من نجاح ثورته .


ورحم الله جميع الشهداء ، ونسأل الله أن ترى أمتنا الفجر قريبا فقد طال الظلام أخي .


صدقت أي خالد

لقد خيرت هتان الثورتان مفهوم الثورة ، فأوجدت نمط جديدا .

لكن هل تعلم ما المضحك هو أتهام من ينادون بالصلاح والإصلاح بإنهم عملاء للأجندات خارجية ( أتهام فضفاض ) صار يردده كثيرون بغير هدى .

مع أن فساد الكام ظاهر وظلمهم واستبدادهم ، وعملاء لمن ، الحكام ماخلوا للعمالة مجال هههههههه

اشكر لك مرورك الطيب أخي وتعليقك

لك تقديري

أفلح اليعربي يقول...

سيدتي الكريم لين

تحية طيبة

صدقتي أختي هذه هي المرحلة الحاسمة ونسأل الله السداد والتوفيق لأمتنا جميعها .

وبإذن الله لن تذهب جهود المخلصين سدى .

اشكرك لك مرورك وتعقيبك

لك تقديري