السبت، 5 يوليو 2014

في ذكرى الاستقلال




 ( ترى أتفتح أبواب قبور مئات الألوف من الرجال الذين
لقوا حتفهم على الجبهة لترسل أشباحاً تنتقم لأرواحهم ؟! ) .
أدلف هتلر ، المستشار الألماني الأسبق " قالها وهو في غاية الأسى عندما
عرف بانهيار الملكية و هو في المستشفى ، و علم بهزيمة ألمانيا في الحرب
 العالمية الأولى وقبولها للهدنة المذلة ، والشروط المهينة ". 









في تاريخ  5 يوليو  ( أو كما يسمى في الجزائر "جويلية" )  في عام  1962 م  نالت الجزائر استقلالها عن الاستعمار الفرنسي  .  سنوات طويلة تحت نير الاستعمار الوحشي و العنصري دامت أكثر من 130 عام[1] ، لم يزد الجزائريين فيها إلا وطنية و شجاعة و اعتزازا بالوطن و الدين .

زرعوا حُب الوطن في أفئدتهم ، و سقوه غدقاً من دمائهم ، دماء مليون ونصف مليون شهيد بل هو أكثر من ذلك ، فأينعت شجرة الحب استقلال الجزائر و حريتها من قيد الاستعمار الفرنسي ، ذلك الاستعمار الذي تقوده دولة مازال البعض يتغنى باسمها على أنها  " قائدة " لواء الحرية و المساواة و العدالة في العالم ، و لكن فرنسا لم تثبت يوما  ـ  وحتى يومنا هذا  ـ  أنها كذلك إلا وفق عنصرها الغارق في العنصرية .

في ذكرى استقلال الجزائر تثير المشاعر المتداخلة و المتناقضة ، تتخالط مشاعر الفرح و الحزن و الحنق ، ليس في الجزائر وحدها بل في قلب كل عربي أحب الوطن العربي و بكى على دماء بلدانه  ، و سعد  بتحريرها  يوما ، و فرح لفرحها .

في مدة الاستعمار الفرنسي الطويل للجزائر قامت مجموعة ثورات لتحرير الوطن[2] ، لكن الثورة الأخيرة[3]  و التي تكاتف فيها أغلب الشعب الجزائري بمختلف طبقاته الاجتماعية و الثقافية و رجال و نساء و صغار وكبار هي من جعل فرنسا تخضع ، استسلمت فرنسا العظمى ، ولم يستسلم الشعب العظيم ، فانكسرت أمامه .

 كانت الجزائر ـ ومازالت ـ مضرب المثل في ثورتها تلك ، رغم أن كل البلدان العربية كانت تحت استعمارٍ ما و كانت تمارس نضالها ضده ، لكن الجزائر أعطت مثال عظيما لحب الوطن و السعي للحرية ، لم يكن الدرس من رجال الجزائر وحدهم ، بل من نسائه ، حرائر الجزائر ، رمز البطولة و العفة . لم تكن فقط  ( جميلة بو حيرد )  وحدها هي الرمز ، لكن كانت هناك نساء جزائريات كنَّ رمزا بعفتهن ، و حفظ أعراضهن ، ومرابطتهن في قُرَاهُن أيام كان رجالهن يقودون لواء النصر ضد المحتل القاسي ، نضال أبهر جنود فرنسا ، فما استطاعوا أن يتجاهلوا تلك المواقف العظيمة فكتبوا عنها في مذكراتهم ، لتظل شهادة للتاريخ عن شعب كانت حتى رماله تناضل ضد المحتل .

لكن ماذا حدث ؟؟؟

تحررت الجزائر ، فانتقلت من ظلم المستعمر إلى  (  ظلم ذوي القُربي ) ، وكل ما ناضلت الجزائر لأجله أعاده "من أدعو أنهم أبنائها المناضلين "  ، ناضلت الجزائر من أجل عروبتها ودينها وحريتها واستقلالها ، فما نالت إلا لصوصا سرقوا أمنها و سفكوا دمها ، و اغتصبوا حق أهلها ، وحاربوا دينها ولغتها ، وسعوا لاغتيال صلة رحمها .

صلة رحمها بالوطن العربي .. أن ( جميلة بو حيرد )  المناضلة الكبيرة ، الرمز العظيم ، انطلقت لنضالها بالدرجة الأولى بسبب ( أمها ) ، أم جميلة لم تكن جزائرية ، لكنها زرعت بقوة في قلب أبتها الوحيدة ـ بين السبعة شبان ـ  حب الجزائر العميق ، و شدة على يدها يوم قررت السعي للنضال من أجل الجزائر ، كانت أم جميلة ( تونسية ) ، ماذا دفعها لذلك ؟  أنها ( صلة الرحم ) . أنه وطن واحد ، و مصير واحد ، نصرك نصري ، والخير الذي ستنعم به لابد أن ينالني قسطا منه ، وحزنك حزني ، و الأذى الذي سينالك سينالني منه ، أنها صلة الرحم .


كتب أدولف هتلر في كتابهِ  كفاحي  : ( لقد أدرك اليهود و البلاشفة وأسيادهم اليهود أن الأمة التي تتمسك بدينها لن تدع مغامراً أجنبياً يتسلم قيادها )  . كل عدو يعلم أن الشجرة المرتبطة بتربتها  لا يمكن امتلاكها إلا أن نزعتها من تربتها ، لأجل ذلك راج في فرنسا مقولة :  ( أن العرب[4] لا يطيعون فرنسا إلا إذا أصبحوا فرنسيين ، و لن يصبحوا فرنسيين إلا إذا أصبحوا مسيحيين ) . فرنسا العلمانية قررت أن تصبح مبشرة[5] للمسيحية ، و سعت بكل جهدها لفرض الثقافة الفرنسية و اللغة الفرنسية ، و الدين المسيحي ، كانت الترقيات الاجتماعية تمنح لمن يصبح ( فرنسيا ) بثقافته و لغته ، شجعت فرنسا على رواج اللهجات العامية ، و ورجت للتعصب للقوميات المحلية كالأمازيغية ، واعتنت بالكنائس ، رغم اختلافها المذهبي معها .

لكن الوطني الصادق المخلص يقرأ الأحداث بعين الفاحص و يتصدى للعدو بكل السلاح ، ويقاتل في شتى الميادين بيقظة تامة ، برز أشخاص جمعهم حب الوطن وكره المستعمر رفعوا لواء الوحدة ، كان هؤلاء المنادين من الكبار أمثال الإمام ابن باديس الذي رفع شعار : " الإسلام ديننا ، و العربية لغتنا ، و الجزائر وطننا " . ذلك الرجل الذي قال ـ يوما ـ بكل صراحة : ( والله لو قالت لي فرنسا : قل : لا اله إلا الله  .  لما قلتها ) . لأنه كان واعيا تماما لمكر العدو ، واعيا تماما لمعنى الوطن وأين تكمن مصلحته ، أسس ( جمعية العلماء المسلمين ) فضمت أقطابا من جميع مذاهب الإسلام في الجزائر ، كان من المؤسسين معه الشيخ ( إبراهيم بيوض )  ، كان هذان العالمان الكبيران يعلمان تماما أن العدو ما كان لتقوى شوكته لولا أنه وجد من يسانده من أبناء الوطن ، و دائما لا ينتصر العدو على الشعب العظيم إلا بالخيانة .

كانا يناضلان كلاًّ من منبره هذا في الغرب و ذاك في الشرق من الجزائر ـ مع التنسيق و الاتصال المتواصل بينهما ـ  ينددون بالمتفرنسين ، و يذكرونهم أن ( الجزائر هي أمهم ) و ليست فرنسا ، و ويلٌ للعاق من عقاب الزمن .

كان الشيخ ( بيوض ) يكتب في كبريات  الصحف ـ حينذاك ـ  تحت اسم مستعار وهو ( أفلح ) ، كان ينتقد بشدة ( المتفرنسين )  ، كان يدعو لنشر العلم و المعرفة واللغة العربية و الدين الإسلامي وروح التسامح القبلي ، ونبذ العنصرية ، لتكون الجزائر هي النسب ، وهي الأم وهي الأب ، كان الإمام بن باديس يفعل ذات الشيء .

و بعد استقلال الجزائر كان الوطنيون الصادقون رافعين رؤوسهم ينتظرون أن يرو علم الجزائر خفاقا ليس بالاستقلال هذه المرة ، ولكن بالازدهار و العزة ، سعوا لترسيخ العربية كأساس ليكون قطيعة مع زمن الاستعمار ، لكن ( المتفرنسين ) و وكلاء الاستعمار كان لهم رأي أخر .

لقد سُئِل الرئيس الجزائري الأسبق ( أحمد بن بلة ) ـ مرةً ـ عن موقفه من اللغة العربية و البربرية . و لماذا لجأ في عهده إلى محو الأمية باللغة الفرنسية ؟ ،  فأجاب : ( أعتبر أنه من العيب أن نأتي بعد ربع قرن لنسأل عن موقفنا من اللغة العربية ، أنا ضدّ من يطرح أي لغة أخرى مهما كانت ، فعلى مستوى اللغة العربية فهي لغتنا الوطنية ، ولا يمكن التخلي عنها أو تشجيع أي لغة أخرى منافسة لها ، أنا بربري في الأصل وتراثي البربري تدعيم لأصالتي العربية و الإسلامية و من ثمّة لا أسمح بوجود لغتين وطنيتين : عربية و بربرية ، أنّ اللغة الوطنية الوحيدة هي اللغة العربية ، أما البربرية فتدخل في حيّز التراث الذي يتطلب منا إثراؤه و الدعم الايجابي منه ).

وردّ على الاتهام بقوله : ( بدأنا بمحو الأمية بالفرنسية ، و لم يكن عندنا ما يكفي من المعلمين باللغة العربية لتسيير مؤسسة تربوية واحدة وقد لجأنا لاحقا إلى التعريب ، لقد أحضرنا جيشا من الأساتذة من مختلف الأقطار العربية وشرعنا في إعداد برنامج وطني للتعليم في مختلف مستويات التعليم . و كناّ نعد لإصدار قرار بعد قرار التسيير الذاتي يقضي بتعريب الجامعة ، وقام السيد الطاهر الذي كلفته بإعداد المشروع القاضي بدراسة مختلف المؤسسات التعليمية واحتياجاتها وبرامجها إلاّ أن الانقلاب كان أسبق من الإعلان عن المشروع الوطني للتعريب وكنا ندرك جيدا أهمية تعريب الجامعة و هذا لا يعني أنه لم يكن هناك برنامج للتعليم بل لقد بدأنا بالتعليم الأصلي ).

كان من الممكن أن يكون وطنا مثل الجزائر هو من الأوطان الغنية ، المزدهرة لو أنه قيض لها من يتولى السيادة فيها من الشرفاء ، لكن يبدو أن فئة ما كانت مولعة بخبث الفرنسيين ، و طرق السرقة و التنكيل التي مارسوها ضد الجزائر ، و لم يهتموا أن تكون الجزائر اليوم ندا قويا يقف ضد أوروبا و فرنسا تحديا ، ليعود ويحتضن أبنائه بعد الشتات و يغمرهم بالأمن بعد الخوف ، ويجبر جراحهم .

كان الوطنيون الصادقون واعون تماما لمعنى الوطن ، ومعنى ما عانى الوطن ، حتى أنك لتجد رجلا ناضل من أجل الديمقراطية بكل ما أمكنه يقول : ( لو خيروني بين الجزائر و الديمقراطية ، لاخترت الجزائر ) . أنه ( سليمان عميرات )  ، أحد المناضلين الكبار عن الجزائر ، و الذي لم يمت برصاص فرنسا ، بل مات بألمه العظيم على ما يفعله أبناء الجزائر بالجزائر و بشرفاء الجزائر ،  ألم نقل :

( و ظلم ذوي القربي أشد مضاضةً
على المرء من وَقْعِ الحُسامِ المُهنَّدِ )

حين وجد هؤلاء ( الأعداء الجدد ) أنفسهم في مأزق سياسي ، ما ترددوا في الاختباء خلف عباءة الشرفاء ، الذين ما توانوا يوما عن خدمة الوطن بكل ما أوتوا ، كان عشقهم للوطن أكبر من أن يدفعهم لرد طلب نداء الجزائر لهم ، حتى وأن علموا أن النداء جاء من أصوات تحمل الباطل في كل خلاياها و نبراتها ، أمثال أولئك الشرفاء مثل الرئيس ( محمد بو ضياف ) .

عاد ( بوضياف ) بقلبه المحب ليمسح الحزن بكفه الصادق المخلص عن وجه الجزائر المعفر بالدماء و تراب الحزن ، لكن حماسه الكبير ليعجل برسم الابتسامة على وجه الجزائر الذي طال حزنها ، و التي حتى فرحة استقلالها كانت برائحة الدماء ، جعله لا يدير بالا للقطط السمان المختفية خلف الستار ، و التي كانت عيونها ترمقه بوجل و ترقب ، و كانت عيونها تتسع كلما سمعته يهدد بمعاقبة كل من جرح الجزائر ، وكل من سبب الحزن و الألم للجزائر .  فما كان منها إلا أن أطلقت مخالبها لتسكتهُ ثم لتنطلق خلف جنازته جاعلةً من نفسها و ريثا شرعيا ، لمجد ذلك الرجل الشريف .

لو أن الرئيس الجزائري ( محمد بو ضياف ) تعامل بحكمة أكثر مع خصوم الوطن ، و الذين يعرفهم هو جيدا ، و لو أنه ترك التهديد و سعى للمناورة ضد خصومه ليشعرهم بالطمأنينة ، ثم قام بتحيديهم بدون أن يشعروا ، لكان خير له و للوطن ، فواجب القائد أن يعي أن الحرب  خدعة وأن المناورة وسيلة ضرورية لبلوغ الهدف المنشود ، فالقائد الذي يرغب في كسب المعركة عليه أن يعلم جيدا متى  يكر و متى يفر . للأسف استعجل ( بو ضياف ) في التصريح بكل ما ينوي به ، الأمر الذي أشعر ( تجار الوطن ) بالخوف على أنفسهم ومصالحهم فكانت النتيجة اغتيال ( بو ضياف ) .

أن عدم المقدرة على المناورة المرنة التي تمكن ذلك القائد من احتواء تلك اللوبيات ثم تقييد حركتها ثم تخليص الوطن منها  ، و بسبب الصراحة الزائدة ـ و التي كثيرا ما تكون مضرة في السياسة ـ و بسبب التصريحات الكثيرة يسقط غالبا كثير من القادة المخلصين قبل أن يحققوا أي أنجاز للوطن ، وهذا ما حدث بالضبط للرئيس الجزائري ( محمد بو ضياف). لأن تلك اللوبيات لن ترتاح حتى تتخلص من ذلك الزعيم الذي يشكل خطرا على مصالحها الأنانية  سواء بالاغتيال ، أو الانقلاب عليه و إسقاطه ، أو بتأليب دول معاديه ضده .

ما كادت الدماء تجف بعد الثورة ضد فرنسا ، حتى خرج أناس من ( ذوي القربى ) يجدون ألف عذر لسفك دماء بعضهم ـ  قبيحة أعذارهم ـ  وطالت سنين النزف حتى أتى الرئيس ( عبد العزيز بو تفليقة ) ، الحقيقة كنت ممن تفاءلوا خيرا حين كنت اسمع كلامه قبيل الانتخابات ، رغم معرفتي الجلية بسلطة العسكر في الجزائر ، ورغم معرفتي الجلية بأنَّ ( لصوص الوطن ) لا يمكن لهم أن يتركوا للساعين الصادقين ـ أن صدق هؤلاء الساعون ـ  المجال .

استطاع ( بو تفليقة ) حقن الدماء ، و قطع الطريق على الذين كانوا يقتلون أهلهم باسم الدين ( لا أحبذ استعمال لفظة إسلاميين لأمثال هؤلاء ) . وكنَّا ننتظر منه أن يبدأ بتقليم أظافر ثم أجنحة العسكر و اللصوص ، لتتنفس الجزائر ، لكنه لم يفعل ، لا استطيع الخوض في نوايا الرجل . لكني استطيع أن أقول أن الجزائر مازال حزين ، و أنه يغلي بطريقة يتغافل عنها المتربعون على عرشها الناهبون لخيرات أهلها ، ويوم ماء سيفور مرجلها ليسلخ جلود هؤلاء المتربعين الناهبين لها ، و سيكون لات حين مندم .


أخيرا ،،

الجزائر  أنموذج  ـ ربما ـ جلي لجميع الوطن العربي ، حتى وأن اختلفت بعض الحالات و التفاصيل في هذه الدولة أو تلك . خذ ما قلته عن الجزائر في مقالتي و تأمل بلدك ، تاريخه و حاضره ، سترى أن الصورة واحدة ، لا تختلف إلا في التفاصيل و المسميات فقط .

الأمر لا يقتصر على الجزائر وحدها بل يمكنك أن تقيس كل الدول العربية على ما حدث في الجزائر أيام الاستعمار و الاستقلال و ما بعده ، سواء من استعمرته فرنسا أو بريطانيا أو أسبانيا . ستجد أننا لم نستفد شيء برحيل الاستعمار ، فمثلا الثقافة الفرنسية تحضر بقوة في بعض البلدان العربية رغم رحيل الاستعمار ، و ربما بشكل أقوى منه أيام الاستعمار ، فمثلا  في تونس تشير الدراسة إلى أن 72% من التلاميذ  يجدون صعوبة في الحديث باللغة العربية الفصحى بينما لا يجد صعوبات في الحديث باللغة الفرنسية سوى 50% فقط ، و فيما يتعلق بالكتابة فإن 37% من التلاميذ يجدون صعوبة في الكتابة باللغة الفرنسية في حين تصل نسبة الذين يجدون صعوبة بالكتابة باللغة العربية 60% . و أصبحت بعض الدولة علمانية أكثر من فرنسا نفسها ، و أصبحت بعضها بريطانية أكثير من بريطانيا نفسها ، و صرنا نسفك دمائنا تحت مسميات كثيرة ، وسجون التعذيب  مازالت مستمرة ، فقط تغير من يديرونها ، وهلم جر .

يقول أدولف هتلر : ( و كلما فكرت بما انتهى إليه الوضع في ألمانيا أشعر بالحقد يغلي في صدري ، الحقد على الذين سببوا هذه الكارثة )  .



[1] - احتلت فرنسا  الجزائر عام 1830 م .
[2] - كان أبرزها بقيادة ( عبد القادر الجزائري ) في 1832 م ، و أخرى بقيادة  (  أحمد بو مرزاق ) في  1872 م .
[3] - اندلعت الثورة في 1 نوفمبر 1954  م ، و دامت 7 سنوات .
[4] - في تلك الفترة كانت فرنسا تحتل أجزاء كبيرة من الوطن العربي ، منها : المغرب و الجزائر و تونس و لبنان ، وأجزاء من سوريا ، وكانت تطمح للمزيد قبل أن تعقد مع دولة استعمارية ثانية وهي بريطانيا اتفاقية عرفت باسم اتفاقية ( سايكس ـ  بيكو ) عام 1916 م  ، تم تقسيم المستعمرات بينهما  .
[5] - التبشير للمسيحية يعني نشر المسيحية و الدعوة لها من أجل أن يعتنقها الناس ويؤمنوا بها .

الخميس، 29 مايو 2014

لا تهدم المبنى





" لا يحقرن أحدكم نفسه "
حديث نبوي





 

أن اعتزازك بلهجتك وقيمك يجعل منك إنسان يحترم لهجة و قيم و ثقافة الأخر ، و يجعلك قادرا على تقبل الآخر و التفاعل معه . أن الوطن العربي ـ  من المحيط إلى الخليج ـ  جسد واحد ، حتى و أن حاول البعض التملص من هذه الحقيقة ، لكنك لا تستطيع أبدا أن تتجاهل أن كل شر يحدث في أحد الدول العربية نتأثر  به جميعا . و  أن أي خير يحدث فيها نستفيد منه جميعا ، و هو خير يعمنا جميعا . بالتالي فتراث أي دولة عربية هو تراثنا جميعا ، و ثقافة و تاريخ أي دولة عربية هي  ثقافتنا  و تراثنا جميعا ، و أن عزة و رفعة أي دولة عربية هي عزتنا جميعا  و رفعتنا جميعا .

أنه من العار أن تحتقر لهجة أي بلد عربية أخرى ، و العار أكبر العار أن تحتقر لهجتك أو تخجل منها ، أنت لست مطالبا أبدا بأن تلغي لهجتك من أجل أي شخص مهما كان ، المحترم سيحترمك و يحترم لهجتك و سيحاول فهمها ولو من سياقها العام ، لأنه يعلم تماما أن لهجتك هي تراث عربي له  به صلة ، و هو يشاركك فيه ، لا يحق له الاستهزاء أو الاستخفاف به .  و كما أنه يحب أن يحترم الناس لهجته فهو أيضا يحترم لهجتهم .

أثناء زيارتي لمحل التذكارات الموجود في المتحف المصري ـ  بعد جولة في المتحف[1] ـ  سمعت موظفة هناك كانت تحاور زميل و زميلة لها ، و تقول لهم : ( قال لي رويني ، بيقول رويني[2] ) و كانت تضحك و يضحكون معها  ساخرين من تلك اللهجة ، فهمت أنها كانت تحدثهم عن سائح كان في المحل يشتري تذكارات ، و كان يتحدث بلهجته فكانت تتندر عليه .

كان و اضحا أن من كانوا يستهزؤون  بلهجته هو سائح ( إماراتي ) . الأمر أغضبني جدا ، وليس من عادتي السكوت[3] على من يسخرون و يستخفون بغيرهم ، لكن للأسف الوضع لم يكن يسمح لأي نقاش .

أولئك الذين كل همهم احتقار لهجتهم ، و عاداتهم ، وقيمهم ، أو يحتقرون لهجة ، و عادات  ، و قيم الآخرين هم أناس يعانون من عقدة النقص و الشعور بالدونية ، ويعانون جدا من ضحالة الفكر .

أنت لا تملك ـ أبدا ـ  أي برهان أو دليل أو حجة على أن لهجتك هي أفضل اللهجات أو أن عاداتك هي أحسن العادات ، أو قيمك هي أنبل القيم . كما أنك لا تملك أي برهان أو دليل  أو حجة على أن لهجتك هي لهجة سيئة  ، و أن عاداتك عادات غير جيدة أو أن قيمك هي قيم غير موزونة .

أن وجود بعض المثالب في قيم ما أو عادات ما ، لا تعني أبدا أن تحتقرها جملة وتفصيلا ، و هذا سلوك ينم على فقر فكري و ثقافي  عميق عند هذا الإنسان .

ثق تماما ـ وهذا من صميم تجربتي و مشاهدتي ـ أنك وكما تسخر من لهجة و قيم وعادات غيرك فإن هناك من يسخر من قيمك و عادتك و لهجتك . مرة  قالت لي سيدة أردنية أنها تتقزز من اللهجة التونسية ، وأنها لا تعجبها أطلاقا . و بعد فترة في  أقل عن شهر كنت أتحدث لصديق سعودي و في خضم حديثنا كان يقول لي أن اللهجة الأردنية لهجة لا تعجبه أبدا ، وأنه يشعر بالغثيان عند سماعها .
حين استحضر هذه الأمثلة فأنا أنبه بشدة على ( عدم التعميم ) ، فلا يعني أن فلان ينتقد فلان بأن هذا دليل على أن أهل البلد الفلانية جميعهم يشاركونه الرأي . فلا يحق لنا التعميم نهائيا . و استحضار هذه الأمثلة ضروري لنفتح العيون الناعسة التي يغطيها الغرور و الكبر و السفاهة لتفهم ما حولها .

مثل هذه الانتقادات على اللهجات لا تحدث فقط بين دولة وأخرى ، و لكن أيضا تحدث بين مدينة وأخر داخل الدولة الواحدة ، و كل حزب بما لديهم فرحون .


ليس من العدل الحكم على لهجة برمتها على أنها لهجة غير  راقية ، و لكن يمكن الحكم على ألفاظ معينة في لهجة ما على  أنها ألفاظ راقية أو سوقية . أما مسألة الإعجاب أو عدم الإعجاب  بلهجة ما ، فهذه مسألة نسبية تختلف من شخص إلى أخر . و من يتحدث مثلا عن حوار دار بينه وبين شخص صاحب لهجة  مختلفة فيقول لم أفهم كلامه . فهذا في حد ذاته ليس استهزاء  بلهجة الأخر ، إلا إذا قيلت بلهجة تحمل نبرة استهزاء و تهكم ، أو ترافقت مع حركة جسدية معينة تنم عن الاستهزاء و التهكم ، فإن كان كلامه استهزاء و تهكم فهذا الشخص مسكين يستحق  الدعاء ليشفيه الله مما ابتلاه . لأنه يظن أن لهجته هي الفصاحة  أمها و أبوها ، وما علم المسكين أن لهجته عند غيره كما لهجة  غيره  عنده  هو .

البعض قد يرى موضوع المقال غير ذي معنى ، لكن أن وقفت في ذات الضفة معي قد ترى أن الأمر أخطر من السطحية التي قد تبدو عليه  ، نحن ـ  العرب  ـ  أكثر ما نفعله هو تحقير أنفسنا ، نحقر كل شيء يتعلق بنا من عادات ولهجات و قيم و مبادئ ، وغيرها .  نحن أخطر من عدونا على أنفسنا . فهذا التحقير التعسفي و غير المنطقي الذي نفعه ـ غالبا ـ لا شعوريا يدفع بنا إلى الهاوية أكثر و أكثر . لأنه مثبط كبير يفضي بنا إلى الفشل . أن اللهجة هي أحد المقومات الحضارية لأي وطن  قد لا ترقى اللهجة إلى رقي اللغة الفصحى لكنها تبقى دعامة من دعائم الثقافة الوطنية . و أنك أن كنت مستاء من تشوه الجدران و الأعمدة في المبني الذي تعيش فيه فهذا لا يخولك أبدا أن تقوم بهدم القواعد ، أو هدم الأعمدة ، لأن أعادة أعمارها يكلف غاليا جدا . علينا أن نسعى لترميم ما تشوه ، و إزالة ما يسيء ، وتجميل ما أفسدته عوامل الحياة و نزيد عليه ما يليق به ،  ليعود المبنى شامخا راقيا كما كان .

من واجبنا عدم الانجرار مع تيار الخلافات السياسية ، بل أن نذلل الصعاب حتى نعيد الانسجام الذي أصيب ببعض الضرر ، ذلك الانسجام الذي كان يضيء ببهائه هذا الوطن العربي الكبير .  و  اللهجة بداية جميلة يمكن الانطلاق منها .


أخيراً ..

تحدث لهجتك بأريحية ، لا تهتم لكلام السفهاء ، و السطحيين . هم بتسفيه لهجة غيرهم يظهرون مدى تبلدهم ومحدودية معرفتهم وفكرهم .

فقط أن أحببت و من باب التكرم منك يمكنك استخدام لهجة وسط ، بحيث لا تستخدم الألفاظ و المصطلحات ( العامية القح ) في لهجتك عندما تحاور أناس أصحاب لهجات أخرى ، هذا فقط من باب فتح باب التواصل بينكم ، وسيكون ذلك كرما منك .

و تذكر جيدا : أن جبريل لم ينزل من شجرة المنتهى لا بلهجتك ولا بلهجة غيرك .






[1] - كان هذا في صيف عام 2009 م .
[2] - روّيني بلهجة بعض أهل الإمارات تعني :  دعيني أرى ، و يقولون : أروّيك  بمعنى أُريك .  أما في اللهجة المصرية فيقولون : أورّيك .
[3] - هذا لا يعني أني كنت سأشاجرهم ، فلست من هذا النوع ، لكني في العادة قد أطرح سؤال أو جملة معينة تجعل من الشخص يفهم مدى سوء فعله . فإن كان المجال أرحب لنقاش خفيف فذلك .

الأحد، 23 مارس 2014

دموع غرداية



خَلوا التَّعصب عنكم واستووا عُصباً
على  الوئام  لدفع الظلمِ  تعتصبُ

هذا الذي قد رمى بالضعف قوتكم 
  و غادر الشّمل منكم وهو منشعبُ


شعر عربي


ولاية غرداية الجزائرية "الجزئية المظللة بالبرتقالي"




من لم يطلع على تاريخ الجزائر فإنه لن يتذكر إلا أحداث نزف الدماء الجزائرية في التسعينيات من القرن الماضي على أيدي أبناءها المتشددين أو من أدعو أنهم أهل الدين .

في 5 مايو/ ماي عام 1931 م ، تم تأسيس أكبر جمعية دينية في الجزائر ـ بل و أهم جمعية  ـ في العاصمة الجزائرية ( الجزائر ) و هي ( جمعية العلماء المسلمين ) ، صاحب فكرة هذه الجمعية هو الإمام ( عبد الحميد بن باديس[1] ) و هو أكبر أقطاب المذهب ( المالكي ) في الجزائر حينذاك ، و كان من رواد هذه الجمعية و مؤسسيها الكبار الإمام ( إبراهيم  بن عمر بيوض[2] )  و هو قطب المذهب ( الإباضي ) في الجزائر يومئذ .

إمام المالكية ( ابن باديس ) ابن ( قسنطينة ) ، و إمام الإباضية ( بيوض ) ابن ( غرداية ) ، تحالفا معا ، كانا ( توأم )  أصلاح ، و علم ، و اعتدال ، كانا قرآن يمشي على الأرض . العالمان الكبيران كانا قطبين كبار في ( جزائر الاحتلال الفرنسي ) ، كانا يؤمنان معا أن الجزائر واحد لا يتجرأ ، و أن الجزائر للجزائريين ، و أن وحدة الجزائر و استقلاله لا تكون إلا بمحاربة الجهل و نشر العلم ، و بتوحد الجزائريين و تلاحمهم . الكبيران رفضا تماما الوظائف الكبيرة التي عُرضتا عليهما في الجزائر الفرنسية يؤمئذ ، لأن ( حب الجزائر ) كان في قلبيهما أسمى من كل كنوز الدنيا . الكبيران تشاركا الإعجاب بمصلحين كبار أمثال : جمال الدين الأفغاني ، و محمد عبده ، و عبد الرحمن الكواكبي ، وغيرهم ممن برزوا في تلك الفترة .

رحل الكبيران ، و هاهي ( غرداية ) تذرف الدموع اليوم حزناً و أسفاً على أبنائها الذين يقتلون بعضهم ، ويخربون بيوت بعضهم ، فقط ، لأن هذا ( مالكي ) و هذا ( إباضي ) ، كم من الخزي يحمله مشعلو الفتن ؟!! .

كم من العار يحملون ؟!

ترى لو كان الرجلين العظيمين بيننا ما كان موقفهما مما فعله أبناء وطنهم ومذهبهم ببعضهم ؟

سحقا لأهل الفتن و التعصب ، كم من حماقة لهؤلاء دمرت الوطن ؟

وكم هي صغيرة عقولهم ؟ و حقيرة نفوسهم ؟ و ضعيفٌ إيمانهم ؟!

ثق تماما أن التعصب لا يكون إلا في قلب خليٍّ من الإيمان . فالمؤمن الصادق مُحِبّ ، و ليس متعصب ، و الفرق بين الاثنين هو فرقٌ بين السماء و الأرض . و لكم في محمد بن عبدالله  ـ  صلَّ الله عليه وسلم  ـ  قدوة في ذلك ، و بيَاناً بيِّناً .

من المؤسف ـ حقاً ـ  أن تُقْتَل لأجل معتقدك الديني ، و الأكثر أسفاً هو أن يكون موتكَ على يد أبناءِ وطنكَ و باسم الدين ، و الأشد حزنا أن يكون موتك على يد من تتشارك معهُ الدين نفسه في كافة تفاصيله ( الربانية ) ، و لكن يقتلك لأنك تختلف معه في تفاصيل ( بشرية ) وضعها بعض العلماء في هذا المذهب أو ذاك .
**

قبل أيام زار وفدٌ جزائري رسمي سلطنة عُمان ـ زعيمة المذهب الإباضي ـ لتوضيح ملابسات مقتل الإباضية في غرادية ، لكن عُمان ـ و كما هو مذهبها الرسمي ـ لا تحمل تعصبا تجاه أحد ، لذا كانت المبادرة العُمانية للدخول بمساعي للصلح بين الأطراف . لم يبلغني موقف الحكومة الجزائرية من المبادرة العُمانية ، لكني على ثقة أنها ستوافق ، لأن الرئيس ( عبد العزيز بو تفليقة ) وضع ضمن مبادئه حقن الدماء الجزائرية بما استطاع .

كذلك من مصلحة الحكومة الجزائرية حقن الدماء سلميا وبشكل عاجل في ( غرداية ) لضمان استقرار الأمن ، لأن الحكومة الجزائرية تواجه مساعٍ للتمرد عليها عبر ما يعرف ( الجيش الحر ) الذي يسعى عبر موقعه في الإنترنت لاستقطاب الجزائريين و خاصة فئة الشباب . و الذي سعى مؤيدوه  لنشر موقعه عبر مواقع التواصل الاجتماعية و خاصة ( الفيسبوك ) .

شخصيا لا أتمنى حقا أن يكون لهذا الذي يدعى ( الجيش الحر ) أن يكون له واقعيا أي وجود في الجزائر ولا غيرها ، لأن الجزائر تتشابه واقعيا إلى حد كبير مع سوريا و العراق ، و وجود خلاف من هذا النوع فيها يعني سنوات طويلة من نزف الدماء و الدمار و الفوضى كما هو حاصل الآن في العراق . لكن المؤسف أن الحكومة الجزائرية لم تلتفت لمطالب الشعب الجزائري ( المادية ) على الأقل أن لم تكن ترغب في تحقيق مطالبهِ السياسية .


أخير ...

الإمام الكبير ( ابن باديس ) ـ رحمهُ الله ـ و الإمام الكبير ( بيوض ) ـ رحمهُ الله ـ  لم يكن اختلافهما المذهبيُّ  ( خلافاً ) ، بل كان ( تكاملاً ) يغمرهُ  الاحترام و التعاون .

لله  درُّ  تلك  العقول العظيمة ، و القلوب المؤمنة الصادقة .


اللهم أحفظ ( الجزائر ) من الفتن ما ظهر منها وما بطن ، و أحفظ ( أهل الجزائر ) و ألف بين قلوبهم و سخر لهم المُخْلِصين و الأمناء من أهل السياسة و أهل العدل . و بارك لهم ما وهبتهم من الخيرات و أنفعهم بها ، اللهم برحمتك آمين .


[1] - ولد في 1889 م  في قسنطينة  و دفن فيها عام 1940 م .
[2] - ولد في 1899 م في مدينة القرارة بولاية غرداية ، توفي  في 1981 م .

الخميس، 16 يناير 2014

استخدام الدارجة في التعليم



لسانُ المرءِ يُنبيءُ عن حِجَاهُ
وعَيُّ المرءِ يَسْتُرُهُ السُّكُوتُ
القاضي الفاضل







هناك  من يقدم دعوة ـ  في بعض الدول العربية ـ  على هيئة ( مقترح ) لاستخدام اللهجة  ( الدارجة )  في التعليم ، و رغم أن مقدمو هذا ( المقترح )  يدَّعون أن الفكرة هي وسيلة للتخلص من الأمية ، وأنها فقط ستكون محصورة على مرحلة تعليمية محدودة لأجل إنتاج طبقة من العمال البسطاء القادرين على القراءة و الكتابة ، و غيرها من الإدعاءات ، إلا أن هذا الكلام مرفوض جملةً  و تفصيلاً .

لا أعرف الخلفية الشخصية لمقدم هذا المقترح ، ولا أرغب حقيقة الخوض فيها ، لكن مثل هذه المقترحات ـ رغم ما قدمه من مبررات لتمرير مقترحه ـ  لا تخرج إلا من أحد عقلين :

·       عقل متعصب .
·        أو عقل محدود  الفكر  ضيق  الأفق .

الإبداع ليس مرتبط بلغة دون أخرى ، ولا بلهجة دون أخرى ، لكن ( الفصحى ) هي لغة ( راقية ) جدا ، و كل أمة تهتم بالتعليم و تهتم بتطويره هي أمة ترغب في ( الرقي بأبنائها ) ، و ليس الهبوط بهم . نحن هنا لا نحتقر أي لهجة ، لكن في كل أمة تكون هناك ( لغة علم وثقافة )  وهناك ( لغة عامة و دهماء ) ، وهذه الأخيرة هي ما نصطلح على تسميتها بـ ( الدارجة أو العاميّة ) . فهل يتساوى النور و الديجور ؟

صاحب المقترح يقول أنه يرغب ـ عبر مقترحه هذا ـ بمحو الأمية ، فأين المنطق في كلامه هذا ؟

فأنت أن استخدمت الدارجة أو الفصحى فسوف تضطر في كلا الحالتين أن تعلم هذا الطالب أساسيات الكتابة و القراءة . معناه سوف تضطره لتعلم الحروف ، حسنا ، الآن أخبرني هل الحروف التي سوف تستخدمها في تعليمك له للدارجة تختلف عن الحروف التي تستخدمها في تعليمك له في الفصحى ؟  قطعا ( لا ) .

أن كنت تظن أن الدارجة أسهل في التعليم من حيث القواعد اللغوية و النحوية ، فأنت تتحدث أنك تريد فقط  ( محو الأمية ) ليتم استخدام هذه الفئة في مهن بسيطة جدا ، و ليس لتقوم بتخريج أطباء و مهندسين و علماء وغيره . إذا معنى هذا أنه لا توجد أبدا إشكالية فيما لو علمتهم ( الفصحى ) ، ومحوت أميتهم بها . لأنك كل ما ستقوم به هو تعليمهم القراءة و الكتابة  دون الحاجة  للخوض في القواعد اللغوية  ، و البلاغية  ، و النحوية  ، و الأدبية  و غيرها .


أما مسألة أننا سنقوم بتعليمهم بـ ( الدارجة ) ثم من أراد منهم مواصلة دراسته فإنه ينتقل للتعلم بالفصحى ، فهذا كلام به ( مغالطة ) واقعية :

1.    أن التعلم بالدارجة في المرحلة الأولى  سيؤدي لصعوبة فيما بعد عند تعلم الفصحى ، لأن الأمر سيختلط على كثير من الأفراد المتعلمين .

2.   أنكَ  أن  واصلت معهم  التعليم بالدارجة معناه أنكَ تبترهم عن امتدادهم القومي و تجعلهم يغرقون في ذاتهم و يتقوقعون أكثر .

3.   بل و ستبترهم من انتماءهم الديني و سيؤول الحال عندنا كما آل عند اليهود  و المسيحيين الذين أصبح الكثير الغالب فيهم لا يجيد قراءة كتبه المقدسة بلغتها الأم ، فالعاقل يعلم ماذا تفعل الترجمة بأي نص أن أنت حولته من لغة إلى لغة أو من لهجة إلى لهجة ، و أنت تعلم أنما أعجاز القرآن في لغته بامتياز . و ليس فقط على مستوى قراءة القرآن بل وحتى الكتب المكتوبة  بالفصحى أكانت قديمة أم حديثة .


مشكلة كبيرة  حقا حين يكون المسئول عن التعليم هو ( إنسان سطحي )  و ذا عقل ضعيف  ،  لأنه سوف يقيس الجميع بنفس مستواه . في الواقع أن المناهج الدراسية جدا سطحية ، وخاصة مناهج اللغة العربية ، ودائما العذر ( أننا لا نريد التصعب على الطلاب ) ، أو  ( أن الطلاب لن يستطيعوا فهمه ) . هذا يدل على مستوى المسئولين عن هذه المناهج  و مدى سطحية عقولهم و ضعفها :

1.   فأي علم  سهل ؟!  فأنتم تدرسون للطلاب الرياضيات و الفيزياء فهل هذه مواد سهلة ، مهما حاولت تبسيطها ؟!  إذن هل اللغة العربية ستكون أصعب من الفيزياء ؟!. أن دور التعليم و قطبيه الأساسيين ( المعلم و المُتعلم ) هو التفوق على صعوبة العلم لبلوغ الهدف المنشود منه ، وهو السمو بالعقل .

2.   أنظر الفرق بين المدارس التي يديرها بعض ( شيوخ الدين ) و أهل العلم  أيام العطلة الصيفية ، و التي تستخدم أسلوب ( التعليم التقليدي ) المتوارث منذ عقود ،  و التي تهتم باللغة العربية و العلوم الدينية ، فعلى الرغم من أن فترة التعليم فيها قصيرة جدا مقارنة بالمدارس العصرية إلا أن المحصلة التي يخرج بها الطلاب هي اكبر بكثير من تلك التي يجنيها حتى أفضل الطلاب عقولا في المدارس العصرية . لماذا ؟  لأنها تستخدم أسلوب يؤمن بالعقول العظيمة ، و  رفع شأن البسيطة ، و ليس أنزال العقول العظيمة إلى مستوى البسيطة .

3.  سياسة المناهج التي تراعي و تخدم أصحاب المستويات الدُنيا و التي تؤدي إلى إنزال أصحاب المستويات العليا إلى مستوى الدنيا لا تنتج إلا مجتمع ( بليد ) ، ليس فيه  تقدم  و لا أنتاج ، اللغة ليست فقط مجرد فلسفة و أدب ، بل هي ( هوية ) و هي ( أداة ) أنتاج  و عطاء ، و المستوى اللغوي لأي أمة يعتبر مقياس (حضاري ) لها .


استغرب ممن لا يجد حرجا من حضور ( لغة أجنبية ) ـ كالفرنسية و الإنجليزية و الأسبانية و غيرها ـ  بكل تلك القوة في حياته ولا يراها مسألة تدل على التبعية و الضعف ،  بينما يجد حرجا اتجاه ( الفصحى ) ولا يراها امتداد له رغم أنها  لغة له معها نسبا قويا بل هي ذاته  ، و هويتهُ  ، و تاريخهُ . بل  و استغرب من يدَّعي أنه يريد أصلاح التعليم فيهتم بالشكليات بدلا الاهتمام  بالعمق . ما نحتاجه حقا :

·   بيئة مدرسية تمنح قابلية للطلاب على الإقبال على التعليم ، وهنا لا أعني المباني الفاخرة و الأثاث الفاخر ، بل المباني التي تحترم قيمة الإنسان ، من حيث اتساع الفصول وعدم الازدحام فيها ، ومن حيث توفر الأثاث لكل طالب من الطلاب ، فهذا يساعد الطالب على العمل بأريحية ، ويشعره أنه مهم و ليس عبأ على أحد ، في بعض الدول العربية لا يجد الطلاب مقاعد و لا طاولات للجلوس عليها مما يضطرهم الجلوس على الأرض أو الازدحام على الكراسي المتوفرة .
·   نحتاج مناهج تبني العقول وتسمو بها ، وليس مناهج تزيد العقول تبلدا ، ونحتاج توفر الكتب لجميع الطلاب ، ففي بعض الدول العربية لا يجد الطلاب كتب أو لا يتمكنون من شراءها لضعف أحوالهم المادية .
·   نحتاج كادر تعليمي يؤمن بالمهنية و الأمانة في بناء العقول ، و الإخلاص في ذلك . كذلك نحتاج توفير لذلك الكادر ،  في بعض الدول العربية حتى الكادر هذا غير موجود ، اللهم نجد أحيانا بعض الأفراد يقومون بالتطوع  لتعليم هؤلاء الطلاب ، الأمر الذي يعني عدم التزامهم معهم بشكل نظامي لأن هؤلاء الأفراد عادة مرتبطون بوظائف أخرى .
·   نحتاج مراعاة مدة مكوث الطلاب في المدرسة خلال اليوم الدراسي و مدته ، لأن الإطالة غير المعقولة تجعل الطالب و المعلم يشعران بالتعب و الملل ، فمهنة التعليم مهنة جدا منهكة جسديا وذهنيا . حين تتحدث للمسئولين عن هذا فإنهم يبررون أن الغرب لديه هذا الأمر ، لكن كلمني بالمنطق ، هل أنت في باقي الأمور التي تخص التعليم  تفعل كما يفعل الغرب ، فأي إجابات سطحية هذه التي تعطيني إياها وأي منطق هذا ؟؟! . كذلك أن بقاء الطالب أغلب يومه في البيئة المدرسية ـ و التي يقضي فيها أغلب أيام الأسبوع ـ  مقارنة بما يقضيه في البيت أو البيئة الخارجية تتسبب في حدوث فجوة ثقافية و قيمية  بين ذلك الجيل الذي مازال في مقاعد الدراسة وبين بيئته وعاداتها وقيمها ، فينشأ مشوه القيم و العادات ، فيتلقف من هنا وهناك بعيدا عن رعاية الأهل بشكل دقيق .
·   نحتاج إلى الاهتمام الحقيقي في تنمية العقول و تحفيزها ، و تبني المبدع منها ، في الحقيقة أن ما يقدم من أنشطة ومسابقات في المدارس هي أمور شكلية بامتياز . و غالبا تلك المنافسات غير شريفة و غير جادة ، وهي تنمي النفاق فقط وليس الحماس ولا الإبداع ، كما أن الطلاب لا يُقبلون عليها بحماس بل مُكرهين ، لأنه لا يوجد بها ما يحمسهم أساسا .


الجمعة، 10 يناير 2014

لا تجعلوا سوريا عراقاً ثانٍ




( إنَّ السعيد لمنْ جُنِّبَ الفِتنَ )
النبي محمد صلَّ الله عليه وسلم.





المملكة السعودية تدفع بشبابها للقتال باسم   " الجهاد "  و تُسهل للأهالي جمع التبرعات للمجاهدين ، هي لا تفعل هذا لأجل فلسطين بل لــ ( سوريا ) ليس بدافع الدين ـ كما يعتقد العامة ـ   ولا لرفع الظلم عن السوريين ، و لا لأجل ديمقراطية ، و لكن لأن بينها و بين  "بشار الأسد " عداوة :

 الأولى /  بسبب موت رفيق الحريري ، فهي تحمل بشار قتل الحريري .
 و الثانية /  بسبب علاقة سوريا  الوطيدة بإيران العدو اللدود للسعودية .

عادة ما يتم تبرير الصراعات السياسية بين أقطاب الحكم في البلد الواحد  أو بين بلدين بمبررات ( وطنية  أو  إنسانية  أو دينية )  ، بينما في الحقيقة هو مجرد كذب لخداع العامة من الشعب ، والذي غالبا ما يصدق ما تقوله حكومته . لكن من يتتبع سلوكيات تلك الحكومات بشكل قريب يفهم جيدا معنى كل موقف من مواقفها ، ويعرف جيدا متى تكذب و متى تصدق في إدعاءاتها .

أنَّ السعودية تُخْطِئ في  ( سوريا )  نفس خطأها في ( أفغانستان ) .  هي تخطأ خطأ سبق أن ارتكبته في أفغانستان في أواخر الثمانينات و جنت منه الإرهاب و تنظيم القاعدة  . كل هذا لأنها أرادت إسقاط  ( بشار ) ـ  بنفس حماسها لإسقاط ( صدام حسين )  ـ بدون أن تتدخل بشكل رسمي وبدون أي تورط عسكري أو سياسي مباشر ، الأمر نفسه حدث في ( أفغانستان )  أيام الاحتلال ( السوفيتي )  لها . ولكن ماذا كانت النتيجة ؟

 لماذا نكرر ذات الخطأ ؟ .

إسقاط ( بشار ) الدكتاتور الدموي لن ينتج عنه سوريا ( وردية ) بل سينتج عنه ( عراق )  آخر . نفس الأمر الذي حدث للعراق ومازال إلى يومنا هذا بعد إسقاط صدام حسين . أن التركيبة الاجتماعية و السياسية لـ ( سوريا ) تؤكد هذا[1] ، و هو أمر يعرفه الخبراء في هذا الشأن جيدا ، و هم  يشهدون على كلامي .

( المعارضة الشريفة )  في سوريا ( ضعيفة ) ، لا تملك الإمكانات لتصدح بصوتها و لتكون حاضرة في المشهد السياسي بقوة ـ  حالها حال المعارضة الشريفة في العراق ـ  مقارنة بـ ( الخونة ) الذين لا يختلفون في فسادهم عن ( بشار ) حتى قبل أن يصلوا إلى السلطة ، بل أن بشار ربما أحسن منهم بأنه لم يسلم بلاده للأمريكان و اليهود ، أما هؤلاء فحتى قبل أمساكهم بالحكم قاموا بتسليم كل شيء .

كيف يمكن للشعب أن يثق في هؤلاء ؟

أتمنى من الساسة في  السعودية  و عُمان و  قطر ، أن ينظروا بعدل في هذه المسألة ، و ليتركوا تصفية الحسابات السياسة و التي تتم فوق أجساد المستضعفين وعلى دمائهم ، يكفيهم تشردا و قتلا ، لا تكرروا خطأكم في العراق . كذلك أن تأزم الوضع في ( سوريا ) يعني تأزم الأمن في ( لبنان ) .

بإمكان ( الثقل السياسي السعودي ) و ( الدبلوماسية العُمانية العالية )  أن تحل معاناة  الشعوب العربية  وتحتويها في  مصر  ، و سوريا ،  بل و في اليمن أيضا . و أقولها بكل ثقة .


يا أهل الحُكم  و السياسة  ،،

أن حساب الخلق عليكم  ، و الله سائلكم عنهم  فلا يغرنكم انخداع شعوبكم بخطاباتكم  و مبرراتكم التي تسوقونها لتسوِّقوا قراراتكم  ،  فالله يعلم ما في صدوركم .  فإن استطعتم بمكر السياسة خداع العامة  فإنكم  لن تستطيعوا خداع الله .

الكل صار ـ  في خضم الظروف الراهنة  ـ يبحث عن خائن بين الأفرقة المتناحرة . و الكل يتهم الآخر أنه خائن ،  مازال مقالي ( إلا خيانة الوطن )  هو الأكثر  قراءة منذ أن كتبته في 11 مارس 2011 م ، أغلب الواصلين إليه كانوا عن طريق (  محركات  البحث )  تحت عناوين تدل أنهم يبحثون عن خائن ، أو مقولات عن الخيانة أو أشعار و ما إلى ذلك ، سبحان الله !! .

يا أخي  ،،

لا تبحث عن ( خائن )  بل ابحث عن إصلاح الحال في الوطن ، فالبحث عن الخائن لتبادل التهم فقط  أو من هو المخطئ لا جدوى منه . لأننا بذلك ندور في حلقة مفرغة.

الحماس الذي ينتاب البعض في الدول العربية  لصرع الحكومة السورية و إسقاطها يدفعني للتساؤل :

 ماذا لو حدث في بلادك نفس ما يحدث في ( سوريا ) الآن ؟ و قامت دولة أخرى بدعم الثوار أو المتمردين ـ أيًّا كان مسماهم ـ و مدهم بالمال و الشباب للقتال ؟ و قامت هذه الدولة بتأليب المجتمع الدولي عليكم لقصف بلادكم  بنفس حماس حكوماتكم  الآن ؟ ماذا سيكون موقفكم ؟

سأجيبك :

 سوف تتذمرون وتشتمون هذه الدولة وشعبها ، و ستقولون نحن لا نحتاج لتدخلكم في بلادنا ، وهذا شأن داخلي يخصنا وحدنا ، وأنتم ليس لكم دخل فينا .

أليس كذلك ؟؟

هكذا نحن البشر نحكم دوما بازدواجية معايير و بنظام ( حلال علينا  حرام على غيرنا )  و نسوق المبررات دائما حسب رغباتنا و مصالحنا .  و نبرر لأنفسنا مالا نبرره لغيرنا ، حتى على مستوى حياتنا العادية البسيطة نفعل هذا .

هذه الدول التي تتحدث عن سياسات ( بشار )  اليوم هي نفسها تمارس ما يمارسه ، فقط ما يختلف هو القالب الخارجي لممارساتها فقط .  وحين ثارت شعوبها قمعتها ، وغضبت من تدخل الآخرين  في الوضع حينه . خذ مثلا :  إيران  ، و السعودية .  إيران في حين بررت للشعب ( البحريني) ثورته ضد الحكومة و الملك فإنها استنكرت ثورة الشعب ( السوري ) ، بينما السعودية و التي استنكرت ثورة الشعب ( البحريني) تقوم بدعم الثورة ( السورية ) . وهاتان الدولتان ( إيران و السعودية ) حين ثار الشعب داخلها قامت بنفس ما قامت به كلاًّ من ( سوريا و البحرين )  ضد الشعب المنتفض داخلها . فسبحان الله كيف يحكم البشر ، وكيف يجدون المبررات لإعطاء  شرعية  لمواقفهم .


أخيرا ..

أيها القارىء الكريم لا تجهد نفسك في تصنيفي ، فليس هذا ما أرجوه منك ، أنا لست ( مع )  أو (ضد )  ، أنا مع الوطن مع الحق ما استطعت ، حيثما أبصرته سعيت له  ، و نحوه .

أنا لست ضد دول أو أشخاص أنا ضد قرارات بعينها و مواقف بعينها ،  الوطن يحتاج الآن أن نبصر الأوضاع بحكمة  ،  يحتاج أن نقول الحق و الحكم به ، و أن كان مُـرًّ ،  وليس الحكم بالأهواء ، و التعصبات ، و الحماس الصبياني الذي يثيره فينا هذا الفريق أو ذاك ليحركنا نحو تحقيق مآربه عبر سذاجتنا .

البعض قد يحكم على كلامي بأنه تخاذل أو جبن  و تثبيط و ما إلى ذلك ، لكنك لو رأيت الأمور بعيدا عن أهواء التعصبات   و الحماس المبالغ فيه و الفلسفات الزائدة  لفهمت أني أرى الأمور من زاوية أخرى أوسع من زاويتك الضيقة ،  هدفي بلوغ هدف سامٍ مثلك لكني لا استسيغ الانطلاق المستقيم الذي لا يراعي ظروف الطريق ، لأنني لا أريد أن تكون نهاية مسيرتي الارتطام و التحطم ، ولا السقوط في هاوية ، يكفينا تحطم  و سقوط .  أنا واثق أن معي الكثير من العقلاء يشاركونني رأيي هذا .

أسأل الله العظيم أن يعم السلام وطننا العربي و يعمه الأمن و الأمان ، اللهم أنَّا نسألك بالمستضعفين فينا أن تصلح شأننا كله ، و نبرأ إليك مما يفعل السفهاء باسمك و باسم الوطن من ظلم و اقتراف مظالم ،  أكان جهلا منهم أم عمدا . ربنا فلا تأخذنا بجور المترفين منَّا ، و لا تأخذنا بما فعل السفهاء منَّا ، اللهم آمين .



[1] - أيام انتفاضة الشعب الليبي حذرت من عدة أشياء ومنها عدم السماح لدول أجنبية بالتدخل  ، لكن أحدا لم يلتفت لكلامي ، وفعلا حدث ما توقعته  . و كذلك اليمن ، فقد حذرت من العودة لليمن خطوات واسعة للوراء إلى التفرقة وزيادة حضور القبيلة ـ رغم عدم غيابها التام في عهد علي عبدالله صالح لكم كان هناك نوع من الاحتواء لها  ـ و كذلك مخاوف انفصال الجنوب ، لكنني تعرضت لانتقادات لاذعة ، وهاهو الحال الذي حذرت منه وقع . يجب أن نحكم على الأمور وفق معطياتها لا وفق أحلامنا أو تعصباتنا .