الاثنين، 15 نوفمبر 2010

نحن أُمة تقرأ ، ولكن ..




" الجوعى لا يمارسون الفضيلة "
منيشيوس ، فيلسوف صيني








 

( أن العرب أمة لا تقرأ وإذ قرأت لا تفهم وإذا فهمت لا تعمل )  تُنسب هذه المقولة للعنصري السفاح الصهيوني ( موشي ديان )  ، سبب قولها ـ  كما يُنسب ـ أنه نَشر بعضا من خطط  ( حرب 1967م  )  و عندما سُئِل أجاب بهذا الجواب . مقولة رددها مُغرضون و ببغاوات .

 

 و سأبدأ من سبب قول هذه المقولة ، أن  ( نشر )  أو ( عدم نشر )  خطط الحرب لا يُغير من مجرى الحرب بالنسبة للشعب الذي يقرأ مخطط  جيش معادي أو لا  يقرأ ، لأن قرار الحرب منوط بالقادة السياسيين والعسكريين في  أي أمة .

 

عندما كانت المقاومة العربية في أوجها في ( حرب عام 1948 م ) تم إيقاف  كُل شيء بأمر من الحكومة المصرية ، قال اللواء ( سيف الدين ) ـ و كان قائد الجبهة وكان هو رئيس الوفد المصري المفاوض في رودوس ـ  حين سأله ( كامل الشريف  ) عن سبب حصول اليهود على الأراضي الفلسطينية بسهولة في خضم المقاومة العربية ، أجابهُ بكل بساطة : ( نحن اعتبرنا كل أرض ليست مصرية هي إسرائيلية ).  و في نفس الحرب بعث المجاهد ( عبد القادر الحسيني ) رسالة إلى جامعة الدول العربية بتاريخ 6 أبريل / نيسان 1948م نصُهَا : ( أني أُحَمّلُكم المسؤولية بعد أن تَركتم جنودي في أوج انتصاراتهم  بدون عون أو سلاح ) . في اليوم التالي أستُشهد هذا القائد بسبب نفاد الذخيرة ثم سقط ( القسطل )  في أيدي اليهود وبعد يومين وقعت ( مذبحة دير ياسين ) .

 

ومثال أخر ، فيما يسمى ( الثورة العربية )  للشريف ( حسين بن علي )  فإن سذاجة  و جهل هذا الرجل بمكر الإنجليز أو تساهله أو ربما  حرصه على تنفيذ مصالحه ( التي وعده بها السير مكماهون في مراسلاته المعروفة باسم "مراسلات حسين - مكماهون" ) جعله يُصدق هنري مكماهون ـ كان الممثل الأعلى لبريطانيا في مصر ـ و رمى عرض الحائط بكلام الثوار والقوميين العرب والسوريين المتواجدين في مصر عندما أبلغوه عن مكيدة الإنجليز وعن  ـ  ما يسمى ـ  ( وعد بلفور ) الذي نشرته الصُحف البريطانية .

 

السلطان العثماني ( عبد الحميد الثاني ) كان واعيا لما أراده اليهود في فلسطين ، لذا رفض أن يبيع لهم قطعة أرض في فلسطين لما طلب ( ثيودور هرتزل ) منه ذلك ، وكذلك عندما أغروه بشراء مزارعهِ السلطانية في فلسطين بمبالغ خيالية ، لكن معرفة الرجل بما أراده اليهود و أخلاصه لأمته ـ رغم الضائقة المادية الكبيرة التي كان يمرُّ بها هو شخصيا و كذلك دولته ـ جعله يرفض طلبهم ، لكنه مع ذلك خسر عرشهِ  . فرفضُهُ ذاك كان سبب إسقاط حكمهِ وجلب العلمانيين الماسونيين لحكم تركيا بالإضافة إلى ما كان يسمى بالثورة العربية .

 

تلك أمثله أثبتت أن وعي الشعوب وحدها لا يكفي لنكسب حرب إذا كان قادة الحرب تابعين أو كانت لهم أطماعهم أو كانوا من المستبدين برأيهم ، أو غُلب على أمرهم .

 

خلاصة الأمر أن سبب تلك المقولة ( باطل )  وهي محض استهزاء بالأخر ليس إلا . فذلك السفاح البربري (ديان) يعلم علم اليقين أنه ما من قائد عسكري يمكنه أن يأخذ بخطة حربية ينشرها الخصم علاناً ، لأن أول ما يتبادر للذهن أنها مجرد مراوغة إعلامية أو مكيدة و تضليل  أو حرب نفسية من نوعٍ ما . وأما أسباب خسارة العرب تلك الحرب فلأسباب كثيرة كانت خلف خسارة ( حرب 1967 م ) و ليس سببها عدم القراءة . رغم أني لا أنفي أن المعرفة مهمة جدا لكسب حرب في كل الميادين .

 

من المغالطة القول بأن أمة بأكملها هي ( أمة مطلعة  و تقرأ ) ، فكل إنسان مُيسر لما خُلق له ، فهناك من يلتهم القراءة التهاما ومنهم من يراها ضربٌ من الجنون ومضيعة للوقت ، ومنهم أناس يكتفون للقراءة في مجالات تخصصهم فقط لإثراء معرفتهم فيها ، و آخرون  بين أولئك .

 

دائما نجد أنفسنا أمام من يقيم المقارنات بيننا و بين الغرب ، مع أن هذه المقارنة فيها إجحاف كبير في حقنا ، بالإضافة إلى المبالغة ـ وخاصة عند المنبهرين بالحضارة الغربية ـ في تمجيد كُل ما هو غربي دون أدنى منطق ، إذ نجدهم يبالغون مبالغة تحيدهم عن الصواب في أحيان كثيرة .

 

الحضارة الغربية بها الكثير من الأشياء الجيدة  ـ و لا أحد ينكر ذلك  ـ  لكن لنلجئ للمنطق في مقارناتنا ، يقولون الغرب ( يطبع ) سنويا كذا من آلاف الكتب تفوق ما يطبعه العرب مجتمعين بكذا ألف مرة ، والغربي ( يقرأ ) كذا كتاب مقارنة بالعربي ، و غيرها من المقارنات .

 

أن الغربيين يتمتعون بأسباب تمنح المقدرة على الإبداع وعلى تطوير الذات ، بينما لا تملك هذه الأمة ذلك ، و الغربيون ليس جميعهم يقرؤون الكتب ، فكثيرون هم من لا يطيقون حتى مجرد ذكرها ، وليس كُلُّ الكُتب التي يشتريها الغربيون هي كُتب علم ومعرفة ، ثم أن الغالبية الساحقة من الغربيين تقتصر مطالعتهم على مجال عملهم وتخصصهم فقط ، فكل شيء مرتبط بالمادة عند الغرب ، فأنت أن كنت جاهلا في مجال تخصصك أو أخطأت فأنك ستتعرض لفقد وظيفتك بكل بساطة لأنك بالنسبة لتلك المؤسسات أنت (  آلة أنتاج ) تجلب لهم المال ، وهم ليسوا مستعدين للاحتفاظ بـ ( آلة ) لا تنتج أو أن أنتاجها غير مربح ، لذا فالمنافسة مستعرة ويجب عليك أن تثبت أنك جدير بوظيفتك . أنا لا أنكر وجود مثقفون غربيون موسوعيون ، لكن – في الغالب - لولا المحفز المادي لما قرأ الغرب .

 

أن (  دُور النشر والطباعة ) الغربية التي تقوم بطباعة ونشر الكتب تعمل على الترويج لتلك المواد الكتابية بنفس الطريقة التي تقوم بها شركات أنتاج السلع الاستهلاكية للترويج لسلعها ، ولا يخفى على أحد ما للإعلانات الترويجية من دور مهم وقوي في جذب الجمهور نحو فكرة ما ، تلك ميزة تتميز بها دُور الطباعة والنشر الغربية لا توجد في دور الطباعة والنشر العربية .

 

أن العدد الكبير من الكتب التي يتم أنتاجها سنويا في الغرب ليست بالضرورة كتب علم ، فهي تحتوي على نسبة ضخمة من كتب السير الذاتية التي صار يمتهنها حتى عمال النظافة في الغرب بعد تقاعدهم من العمل ، بالإضافة إلى كتب تحمل ترهات ولكن يتم منحها أكثر مما تستحق ، بالإضافة إلى القصص والروايات وغيرها .

 

أنا لا أنكر وجود مشكلة لكنها ليست بهذه الطريقة التي يعرضها البعض ، ويروج لها ، وليست كما وصفها ذلك الصهيوني المتبجح ، أن الصهاينة جعلوا جُلَّ جهدهم لتحقير الحضارة العربية الإسلامية ، و لإظهار العرب والمسلمين بمظهر البرابرة الهمجيين البدائيين الذين لا يملكون حتى مميزات بشرية . وتلك عنصرية ليست بغريبة على من يعتقد نفسه ( شعب الله المختار ) .

 

أن الإحصاءات التي تنشرها بعض الجهات ( لا تعتبر عملا إحصائيا حقيقيا ) ، فنحن لم نرى يوما عملا إحصائيا لإحصاء من يقرأ الكتب ومن يشتريها ، ومن يهتم بها ومن لا يهتم . لذا فإن تلك الإحصاءات لا تحمل منطقا ، هي تظل مجرد تقديرات . فإنا أعرف الكثير من الناس يحبون القراءة كثيراً ، لكنهم نادرا ما يشترون كتابا وإنما يستعيرون الكتب من رفاق لهم أو يقومون بنسخها من أناس أو جهات معينة ، أو قراءة نسخ إلكترونية لها . لذا فإن عدد من يشتري الكتب يكون قليل بعض الشيء وبالتالي تعمل دور النشر لتقليل عدد النسخ الصادرة عن كتاب ما . وأن القارىء العربي صار يجد ضالته في الإنترنت ، حيث يتسع فضاء الحرية ولو الشيء القليل فأصبح يستطيع قراءة بعض الكُتب الممنوعة والمحظورة أن لم يكن جميعها ، إضافة لسهولة الوصول للكتب في الإنترنت ، بالتالي هو ليس في حاجة لشراء كتاب يستطيع أجاده في النت .

 

أما عن قلة العناوين التي يتم طباعتها سنويا في ( دور الطباعة العربية ) فالأمر يرجع إلى عوامل كثيرة وأهمها على الإطلاق عوامل اقتصادية و عوامل سياسية تلامس كل الوجهات بالنسبة للأقلام العربية :

 

·   أن  قائمة الممنوعات التي تضعها الأنظمة المستبدة الخاضعة للرأسمالية الغربية تفوق كل التصورات ، وتتعرض الأقلام والعقول العربية للاضطهاد والملاحقات والتنكيل وأساليب التضييق عليها ، وأني أعلم الكثير الكثير من ( الكُتَّاب العرب ) الذين لهم كتابات لم تطبع إلى الآن رغم أنهم فرغوا من كتابتها منذ سنوات بعضها يفوق العشرين سنة . ولا يقتصر هذا على الأنظمة المستبدة ولكن أيضا على الصهاينة الذين يسوئهم أن يرون للعرب براعة في شيء ما ، والجميع يعرف الملاحقات و الاغتيالات التي طالت والتي مازالت تهدد الكثير من العقول العربية والتي يقف خلفها ( الموساد )  .

 

·   الفقر والتضييق المادي الذي في الغالب هو نتاج الفساد الإداري والتبعية التنموية للرأسمالية الغربية والتي تعمل على امتصاص ثروات الشعوب وتكديس تلك الثروات لصالح تلك الدول الرأسمالية ، مما ينتج عنه الفقر والبؤس في الدول المضطهدة وكل ذلك بمساعدة جادة وحثيثة من أنظمة هذه الدول المضطهدة  .

 

في قصة لا تفارق مخيلتي أخبرني بها صديق حدثهُ بها أستاذهُ الجامعي ، وهذا الأستاذ من المغرمين بالعلم والقراءة وهو يذكر متحسرا قصة رجل من سوريا كانت له العديد من المؤلفات ، كان الرجل فقيرا وليس لديه أولاد ، ومع ذلك كان يؤلف الكثير من الكتب ولم يتمكن من طباعة أي كتاب منها لفقره ، وعندما توفي اضطرت زوجته الفقيرة التي لم تجد مالا لتشتري وقودا يدفئ بيتها من برد الشتاء فاضطرت لحرق أوراق زوجها ، وما تلك الأوراق إلا خلاصةُ فكره  .

 

·   و من أسباب قلة الكتب التي يتم طباعتها هي ( قلة المال ) أيضا بالنسبة للقارئ ، فهو لا يقدر على شراء الكتب فهو بالكاد يقدر على توفير احتياجات أسرته المادية . فدُور النشر لن تطبع كتبا هي تعلم أنها لن تستطيع بيعها وتعويض قيمة طباعتها .

 

ولمن كل همهم هو أثبات نظرية ذلك السفاح الصهيوني ، و أظهار العرب بأنهم أمة لا تملك أي حسنات ولا تملك أي مقدرات عقلية أو مهارية أقول أن المؤسسات الغربية مليئة بتلك العقول العربية والتي تقدم الكثير من الإبداع . ناهيك عن العقول التي يسعى الأعداء لطمرها هنا و العقول التي تم اغتيالها .

 

·   يتحجج البعض في محاولة تأكيد تلك المقولة بأن هناك من العرب الذين هاجروا للغرب و أنقضى سنوات على وجودهم هناك ولكنهم ـ رغم تلك السنوات ـ ( لا يجيدون التحدث بلغة تلك الدول بشكل جيد ) ، ليس من حيث اللكنة أو اللهجة و أنما من حيث اللغة ، وأنهم لا يحبذون الالتحاق بمدارس تعليم اللغة التي توفرها تلك الدول للمهاجرين الجدد  .

 

والجواب /   أن هذا أمر لا يمكن تعميمه ، بالإضافة إلى أن هذه الصفة ليست مقصورة على العرب وحدهم ، فأن المتمعن يرى كثيرا من المهاجرين من غير العرب الذين يستوطنون دولا غير دولهم فتجدهم في الغالب لا يميلون لإجادة لغة تلك الدولة ما لم تستدعي لذلك ضرورة ـ كالوظيفة مثلا ـ ونجد أن أغلبهم يتعلمون العامية فقط دون لغة الأدب وذلك لعامل احتكاكهم بشعب تلك الدولة وليس لأنهم أجهدوا أنفسهم بتعلمها . ونجد منهم من لازال لا يستطيع فهم الكلام العامي لتلك الدولة ومن يتفحص مجتمع ( الولايات المتحدة ) تحديدا يستطيع أن يرى الأمر بوضوح تام وذلك لحجم المهاجرين الكبير وتنوعهم الأثيني الكبير ، لدرجة فكر المسئولون في تأسيس مدارس تستخدم اللغة الأم للمهاجرين ليتم أنتساب كل مهاجر إلى المدرسة التي تستخدم لغتهم الأم ، و قد سبب الأمر جدلا كبير في الولايات المتحدة ، إذن فالأمر طبعي جدا ، و ليس في القوم من بأس ، و ليسوا بدعاً من الناس .   

 

·   يقولون أن معدل ما يخصصه المواطن العربي للقراءة سنويا كذا مقارنة بأترابه من الغربيين ، هنا أعود للتأكيد على أن ما من إحصاءات حقيقية في هذا الشأن ، بالإضافة إلى عدم دقة هذا التعميم ، هذا من جهة من جهة أخرى أن جميع أقطار الدول العربية ـ إذا استثنينا دول الخليج إلى حد ما ـ فأنها دول تعيش أوضاعا اقتصادية مأساوية بصدق مقارنة بثرواتها ، ونجد الإنسان يعمل في أكثر من وظيفة لتوفير دخل متدني جدا في جو من عدم تكافئ الفرص وعدم المنافسة النزيهة في سباقات الحصول على العمل . كل ذلك الصراع لا يمنح الإنسان الوقت للقراءة ، وأن وجد بعض الوقت فأن عدم الارتياح النفسي والقلق الذي لا يفارق الإنسان على مصيره ومصير من يعول لا يترك مجالا لممارسة القراءة ، أن همّ الحصول على لقمة العيش لا تجعل الإنسان ـ غالبا ـ  يشعر بالإغراء للقراءة  .

 

عكس الغربي الذي يتمتع بدخل مادي كبير بالإضافة للعدالة الاجتماعية  و القانونية ، وعدم وجود التزامات اجتماعية مثل التي توجد عندنا ، بالإضافة لمحفزات القراءة حيث أن القراءة جزء من الكسب المادي والثبات في الوظيفة في الغرب وهذه صفة لا توجد عندنا إلا في الشركات الكبيرة والتي هي في الغالب فرع عن شركات رأسمالية تعتبر الإنسان رقما و آلة  أنتاج  .

 

·   هناك من يقارن بين عدد الاختراعات في دول غربية والكيان الصهيوني سنويا تفوق المخترعات العربية ، أؤكد على أمر مهم جدا وهو أن عندنا العديد من الشباب المخترعين لكن حتى إجراءات الحصول على براءة اختراع معقدة جدا ، بالإضافة لقلة الدعم المادي للمخترعين وأن أغلبهم هم أناس لا يملكون المال للترويج لاختراعاتهم ، غير التضييق الذي يجده أولئك المخترعين وتلك العقول وفق سياسة عدم أيجاد تنمية بشرية حقيقية وذلك خدمة لمصالح الرأسمالية الغربية لذا نجد أن أنظمتنا المستبدة تدفع مبالغ ضخمة على ترهات وفي المقابل لا تدفع إلا الزهيد من المخصصات المالية لتطوير العلم والأبحاث ، عكس ما يفعله الغرب كل ذلك خدمة للكيان الصهيوني والذي يعتبر من أكثر الدول في العالم الذي يخصص مخصصات مالية عظيمة للبحوث العلمية تفوق حتى الولايات المتحدة  .

 

·   يقول بعض المستشرقين بأن العرب أمة تعتمد على المشافهة ، وهذا الكلام يحوي مغالطة . نعم في مرحلة ما كان نقل المعلومات والعلم يجري مشافهة عند العرب وكان ذلك عندما كان الغرب غارقا في وحل الجهل ، ولا يملك حتى تلك المشافهة في نقل العلم والمعلومات . اللغة العربية لغة جميلة ، لذا برز فيها فن المناظرات وعلم الكلام ، وهذا أثرى نقل المعلومات مشافهة في أمة كانت لظروفها المعاشية لا تهتم بالكتابة ، لكن بعد أن تتطور حالها أصبحت تكتب وتدون ، بل وتستدرك ما كان يدور على ألسن الأجداد والسابقين ، لذا فإن من يتحجج بأن كتاب ( تاريخ الأمم والملوك ) لمحمد بن جرير الطبري ذي المجلدات العشرة نسبة كبيرة منه منقولة مشافهه فهي حجة عليه لا له ، لأن الطبري سجل قسما كبيرا من تاريخ كتابه عما كان قبله حيث كان الناس لا يكتبون ، وفي عهد الطبري ـ في العصر العباسيِّ ـ كان العرب بدؤوا منذ عهد قريب تدوين تاريخهم وملاحمهم و ما تناقله السابقون ، لذا فأن الكتَّاب الذين دونوا بعد الطبري استعانوا بكتبهِ ، وكذلك الكتَّاب الذين دونوا في علوم أخرى كعلم الأدب واللغة والتفسير و الفقة ، هذا غير الكُتُب التي وضعها أصحابها لشرح ما توصلوا له من علم و اختراعات في مجال الهندسة والطب و الكيمياء و الرياضيات وعلوم البحار .

 

·   يأتي أناس ليستشهدوا بمقولة نزار قباني حين قال : ( لا ريبَ أن الأغنية لعبت دورا كبيرا فى إطلاقي إلى الآفاق ، والسبب هو أن الشعب العربي يقرأ بأذنيه..) . لم  يُصب قباني في قوله أبدا ، وإلا لماذا يحفظ الناس إلى يومنا هذا شعر أبي تمام وشعر البحتري والمتنبي بل ومن كان قبلهم مثل عنترة و زهير بن أبي سلمى و الأعشى وحتى أشعار شعراء النهضة الحديثة مثل حافظ إبراهيم وأحمد شوقي و إيليا أبي ماضي وغيرهم ؟ لسبب بسيط أن شعر قباني لا يرقى للحفظ  ـ إلا القليل منه ـ كالشعر العربي الأصيل ، بالرغم أن قباني ألقى العديد من قصائده في محافل كثيرة ألا أنها لم تتجاوز لحظتها ، و السبب أن أغلب قصائده هي من القصائد التي تميل للنموذج النثري :

 

يموت رديء الشعر قبل أهله

و جيده  يبقى  و إن مات قائله

 

اللغة العربية ( لغة موسيقية )  بألفاظها وأوزانها المتقنة ، لذا حفظ الناس أشعار الأولين ، بينما لم ينال الشعر الحديث ـ إلا القليل منه ـ  ذلك الحظ إلا أن غناه مغني وذلك لسبب بسيط هو أن هذا المغني يمنح الموسيقى التي تفتقر لها تلك الكلمات . بالإضافة إلى أن سماع أغنية لا يحتاج لوقت فارغ لها كما يحتاجه الكتاب ، فيمكنك سماع الأغنية وأنت تقوم بعملك أو وأنت مسترخٍ .

 

 

·   أما من يعيبون أن العرب يقرؤون بصوت مرتفع ، فهذه ليست سمة عامة ، ففي القطر الذي أعيش فيه أجد أناس في السبعين والثمانين من عمرهم يقرؤون في صمت و سكون ، قراءة تأمل و تفكر ، مع أن بلادي هذه لم تعرف المدارس العصرية إلا بعد سنة 1970م ، لذا لا يحق لك أن تعمم ما تراه في قطر ما على جميع العرب ، بالإضافة أنه حتى في ذلك القطر تجد من الناس هذا وهذا من طرق القراءة ، وأن كنت تقصد بقولك هذا هو الإشارة لقراءة القرآن في الكتاتيب فتلك أشارة غير مقبولة لأنه حالة خاصة ولا يصح تعميمها كنمط ، أضف إلى كل ذلك أنه سواء قرأت بصوت مسموع أو في صمت لا يعني هذا أنه دليل على أننا أمة لا تقرأ ، فالقراءة هي القراءة أيًّ كان حالهم ، فالعبرة في أن أقرأ أم  لا ، وفيما أستفيده مما اقرأ .

 

·   يعيبون تعلم العرب للغات الآخرين ـ  ولا أدري ما علاقة هذا بالقراءة أو أين العيب فيه ؟!  ـ ويرى البعض أن العرب بالغوا في تعلم العبرية مثلا في حين أن اليهود ـ إلا القلة منهم ـ لا يتعلمون العربية بل ويحتقرونها ، أن من تعلم لغة قوم أمن شرهم ، والعرب قوم يحبون تعلم لغات الأخر منذ القدم ، و لا يضيرهم أن كان الصهيوني العنصري تمنعه عجرفته من تقبل الأخر وخاصة العرب ، ولو مُكن هؤلاء البكاؤون الصهاينة لقتلوا كل البشر ، ولما تعلموا حتى الانجليزية ولا الألمانية ولا غيرها ، لكن لأجل بكائهم ولأنهم يعشقون البكاء بلغات أخرى فهم مضطرين لتعلمها . وأما عن ضعف حركة الترجمة فأن المترجمون العرب ، يسعون جاهدين في هذا المضمار ، إلا أن العوائق المالية والسياسية تعرقل كل الجهود وتمنع الإنتاج  .

 

·   أن الأنظمة المستبدة ومن يقف خلفها من الأعداء يهمهم جداً نشر الجهل و الفوضى ، وبما أنهم لا يستطيعون عدم فتح مدارس لتعليم أبناء شعبهم لأن ذلك سيفضح بجلاء مخططاتهم ، لذا ينشرون الأمية المقنعة ، وهي عبارة أيجاد أجيالا لا تحمل الأمية الأبجدية ، ولكن تحمل أمية فكر ، لذا تعمل هذه الأنظمة على أيجاد مناهج دراسية غير مجدية ، وأساليب تدريس تنفر الطلاب من العلم والقراءة ، وهم يستغلون في ذلك أسلوب الرهاب النفسي ولكن بقدر ما يحققون به غاياتهم فقط . وفعلا هم ينجحون . هذا بالإضافة أنه بسبب الفقر يضطر عدد كبير جدا من الأطفال لترك المدرسة وذلك للعمل في سن مبكر جدا .

 

أن حضارات الأمم والشعوب قامت حين  وُجِد  الاستقرار والشعور بالأمن ( الأمن المادي ، والأمن النفسي ، والأمن في الوطن ) لأن النفوس حينها تتوقد بالإبداع ولا يبدأ الإبداع إلا كانت القراءة والنتاج الكتابي حاضرا بقوة . أن لازدهار أي مجال في حضارة أمة ما عدد عوامل لأبد أن تتضافر أن وجود الخوف وعدم الاستقرار والأمن في نفس الإنسان تنفي عنه اهتمامه بالعلم .

 

كانت الأمة العربية أمة كر وفر ، وحروب وغزوات لا تنتهي ، ورغم وجود الشعر ـ كنتاج ثقافي ـ إلا أنه أقتصر على التناقل الشفاهي ، لكننا نرى أنه بعد أن استقرت دعائم الدولة الإسلامية ، وأستتب الأمن و أزدهر الاقتصاد ، استقرت النفوس و أطمئنت ، والأهم من هذا وجود الزعماء والقادة المخلصين لأمتهم وشعوبهم التواقين للمجد لأنفسهم ولأمتهم ، فتوقد الإبداع في شتى المجالات وأزهرت الأمة ، وفي مجال النتاج الكتابي والقراءة ، نجد الكثير من المكتبات ، حتى خطوط الكتابة ازدهرت وما يكتب عليه حيث تحول الناس من الكتابة على الرق والحجر إلى الكتابة على الورق ، ووجدنا مهن جديدة تظهر كمهنة الوراقين ، وأصبح القارئ يجد أكثر من نسخة  للكتاب الواحد ، بعد ما كان المرء لا يجد إلا نسخة واحدة للكتاب فإن ضاعت أو تلفت ضاع العلم الذين تحويه .

 

كان في العرب القدماء تجد النجار والحداد و القفاف  وصانع الفخار قارىءً موسوعياً ، يوزع وقته بين كسب قوته وكذلك اللجوء لـ ( حوانيت الوراقين ) لقراءة الكتب إذا كان لا يقدر على شرائها .

 

لازدهار القراءة في أمة ما يتوجب  :

 

·       توفر المال للكاتب و القارىء ، ليتمكن هذا من طباعة ما يكتب و ليتمكن ذاك من شراء تلك الكُتب .

 

·   الاستقرار النفسي للكاتب والقارئ . للكاتب حتى يبدع و يتقن ما يكتبه و ليتوقد ذهنه فيستطيع العطاء ، أما القاريء فإن النفس أن أثقلتها الهموم فلا تتسع لغيرها من أمور ، وأن فقدت الحافز لعمل ما فأنها لا تنتهجه .

 

·   وجود الساسة المخلصون للأمة والوطن ، وكذلك الساسة الواعون ثقافياً و علمياً . الذين يكرسون كل جهودهم لنشر العلم والوعي بأمانة و أخلاص ، وأن يستخدموا كل السُبل الممكنة لأجل ذلك ، كالإعلام الذي لا يخفى على ذي لب ما يلعبه من دورا كبير لتخدير العقول أو أنارتها .

 

·   الأمن و الاستقرار في الوطن ، وعدم وجود الخوف ، لأن حضور الخوف في النفوس يقتل الإبداع . عدم الخوف من الجوع أو من العدو أو من النظام  .

 

·   الدور المهم للأسرة ، فالوالدان المثقفان الواعيان ينتجان جيلا واعيا . أن وجود الانترنت ليس سببا لتراجع قيمة الكتاب لكن الأمر يكون لأسباب منها الحرية في النت مقارنة بالواقع ، كذلك للأسباب التي أوردناها سابقا . ذلك أن الإنسان يشعر بالألفة و الطمأنينة مع الكتاب الورقي أكثر من الكتاب الإلكتروني ؛ لأن الأخير مرهق للعين والجسد عكس الكتاب الورقي. لذا لا يمكن أبدا أن تتراجع مكانة الكتاب الورقي و أن حُجب عنَّا .

 

 

لا أذكر تلك المقارنات والحجج لكي أوجد الأعذار على هذا الوضع ، لكني أجد من يبالغ في أكالة التهم على أمتي وكأنه لا يوجد أي شيء جميل بهذه الأمة ، وأن كل شيء فيها سيء سلفا حتى بدون النظر فيه . و مقالي هذا ليس لأنكر أن لدينا مشكلة ولكن لسببين الأول / عدم ترديد كلام الغير بدون بصيرة ، والثاني / لأؤكد أن العرب ليسوا من فصيلة عقلياتها ركيكة ، و أنما هي ظروف تُؤثر . أنا لا أنكر وجود مشكلة في الموضوع ، لكن ما أنكره هو السطحية في تناول الموضوع التي ترضخ لفكر الأخر .

الأحد، 7 نوفمبر 2010

أنها لغة الأذكياء




"جهلتَ  و لم  تعلم   بأنكَ   جاهلٌ
 فمن لي بأن تدري بأنكَ لا تدري"
الخليل بن أحمد الفراهيدي ، شاعر ولغوي عربي







اللغة خلقها الله وسيلة تواصل و اتصال بين الكائنات حتى الحيوانات والحشرات لها لغتها ، ولقد كُرِمَّ الإنسان بالنطق لتكون لغُتهُ مميزة عن كُلِّ الكائنات الأُخرى ، ليُعْبِّر به عن ألآمه  ، و أحزانه ، و همومه ، و أشجانه ، و أفراحه ، و طموحاته ، و كل ما يجول بخاطره ، و لكل أمة لغتها التي تُعبر بها عن ذاتها ، فاللغة هي هويةُ الشعوب وهي وصف شخصيته ، لأنها ببساطة تُجسد ثقافتها ، و تُسجل حضارتها ، و تنقل بها قيمها وعاداتها أجيالا متعاقبة .

من خلال فهم لُغة شعب ما يمكنك سبر غور تاريخه و حضارته و معرفة أسلوب حياته و قِيَمِهِ .

في  كُلِّ  الأمم  و الشعوب تنقسم اللغة إلى قسمين : لغة محكية متداولة يمارسها العامة ، ولُغة أدب تمارسها الصفوة يُسجل بها العلوم و الآداب  و يُحفظ بها تاريخ تلك الأمم والشعوب .
 و ( كلا القسمين ) يسجل و يرصد ما مرت به تلك الشعوب سواء من حضارات و ازدهار أو مِحنٌّ و استعمار .

و ( اللغة العربية )  أحدى تلك اللغات العريقة التي مازالت تقف بثبات منذ سنوات كبيرة ، ومن أكثر ( اللغات الحية ) التي ما زال أهلها يستطيعون فهم وقراءة ما كُتب في أمهات الكتب التي سطرها الجدود قبل أكثر من ألف سنة ، بينما تفقد لغات حية عريقة أخرى هذه الميزة ومنها : ( اللغة العبرية ) و ( اللغة الأرمية )  و غيرها من اللغات العريقة والتي ما تزال متداولة ، رغم أن تداولها ليس بقوة حضور اللغة العربية . ونستثني من ذلك اللغة الصينية القديمة حيث يمكن للصفوة فك رموزها لكن لا يمكن للعامة فعل ذلك ، وهذا عكس العربية .

( اللغة )  مثل ( الأرض ) تتأثر بالطقس ، فمرةً تزدهر و مرة تذوي ، و كل ذلك يترك بقايا فيها ، ولقد سنَّ الله التغيير كسمة من سمات الوجود ، فكان من الطَبْعِيّ أن تتأثر اللغات ببعضها ، فتأخذ و تُعطي ، تبعا لمبدأ الغلبة و الضعف ، و حتى في أوقات الاستقرار لا ينفك ذلك الأخذ والعطاء وفقاً لفلسفة ( التواصل الحضاري ) و (الحوار بين الثقافات )  التي جَبَلَ الله الناس عليه ، لأجل ذلك تطورت اللغات و بعض منها أندثر ، و أُخرى فرضت هيمنتها على اللغات الأخرى فأضافت في تلك اللغة شيئاً من ألفاظها ، و تكون نسبة تلك الإضافة تبعا لقوة  ( اللغة المُضيفة ) ، وضعف ( اللغة المضاف إليها ) .

أذاً فالاتصال الحضاري والتواصل الحضاري هو سمة رقي و ازدهار خاصة أن كان بالقدر الذي لا يفقد ( اللغة الأم ) هويتها الأصيلة  و لا يكون سبيلا لاندثارها.

كذلك حال ( اللغة العربية ) ، لُغة الجمال و الرُقي ، لغة الأدب البديع  و السحر الحلال ، اللغة العربية هي ( هوية الأمة العربية ) و بها جاء أعظم الكُتب السماوية المُقدسة وهو ( القرآن الكريم ) . عاش العرب بقطبيهم : القحطاني ، و العدناني في جزيرة العرب ، وشكلت اللغة أساس هويتهم ، فكادت أن تكون من مقدساتهم ، لقد قدسوها كما لم تُقدس أمة لغتها ، و يكاد لا يُشبههم في هذا إلا ( الصينيين ) الذي لغتهم رغم صعوبة رسم حروفها  و كثرة عددهن مازال شعبها متمسكٌ بها .

وكما جرت سُنَّةُ الله في الأرض فقد مرت هذه الأرض بمراحل تراوحت بين الانتصار  و الازدهار ،  و بين الدمار و الاستعمار ،  لكن ( اللغة العربية )  بقية قوية ثابتة ، لم تندثر ـ رغم المحن العظيمة التي مرت بها ـ كما أندثرت لغات أقوامٍ آخرين مثل اللغات (  السلتية )  التي كان يتكلم بها السكان الأصليون ( لانجلترا ) قبل الغزو السكسوني .

أخذت اللغة العربية من غيرها من اللغات سواء بحكم فرض الثقافات في زمن الاستعمار أو التخالط مع الأخر في زمن الفتوحات والانتصارات ، لكن ما منحته من ألفاظ لغيرها كان أكثر بكثير مما أخذته و استوردته . هذا عدا عن انتشارها إلى بقاع أصبحت فيها العربية هي اللسان فيها .

وهناك الكثير الكثير من الدراسات اللغوية التي أثبتت هذا الأمر ، وللعلم أن أغلب تلك الدراسات وضعوها أناس من لغات أخرى ، بمعنى أخر هم أناس ليس لهم ( مصلحة )  في مدح لغتنا والثناء عليها ، وليس لهم ( مصلحة )  للرد على أولئك المنتقدين للغة العربية بغير برهان .

عبر تاريخها أخذت اللغة العربية  ألفاظاً من لغات كثيرة بحكم الاتصال الحضاري من تلك اللغات : الفارسية ، و اليونانية ، و السريانية ، و العبرانية ، و التركية ، و الإيطالية ، و الفرنسية ، و اللاتينية ، و لغات أخرى .

لكنها منحت الكثير للغات أخرى منها ـ  مثالا  لا حصراً ـ :  اللغة الأوردية  ( الأوردو) و قد أحصت بعض المعاجم الأوردية  ( الألفاظ العربية )  التي اقتبستها الأردو منها (  7584  ) كلمة ، و هي تستخدم  ( الحرف العربي )  للكتابة ،و (  3303  ) كلمة في الملايوية ـ وهو أحصاء مبدئي تضمنه مشروع معجم ملايوي عصري شامل لأحد الأخوة الفضلاء للغة الملايوية ـ وهي لغة تستخدمها شعوب دول جنوب شرق آسيا من ماليزيا ، و إندونيسيا ، و بروناي  دار السلام  ، و سنغافورة ، و فطاني بجنوب  تايلاند ، و ( 160  ) كلمة في الإنجليزية .

وكذلك لا ننسى ( اللغة التركية )  والتي كانت في أوج  سيطرة الأتراك ـ في عهد الدولة العثمانية ـ على الأمة العربية يستخدمون ( الحرف العربي )  لكتابةِ لُغتهم ، ولم ينتقلوا  ( للحرف اللاتيني ) إلا في عهد (  كمال أتاتورك ) العلماني ، كذلك (  اللغة الأمازيغية )  التي تضمنت مفردات عربية ، وكذلك (  لُغة الهندو ) التي يتحدثها نسبة كبيرة من سُكان الهند ، وأيضا ( اللغة الفارسية ) المستخدمة في إيران اليوم وهذه اللغة مازالت تستخدم ( الحرف العربي )  في كتابة لغتها .

 و ( اللغة السواحلية ) التي يتحدثها سكان ساحل كينيا و زنجبار و تنزانيا ، و يستخدمها بعض سكان شرق أفريقيا  ، و هذه لغة حفظها ( العرب العُمانيون ) ـ في فترة حكمهم الطويل لتلك البلاد ـ  حين قاموا بجعلها لغة مكتوبة ـ ولم تكن إلا لغة شفاهية ـ  و استخدموا ( الحرف العربي )  لكتابتها وجعلوها اللغة الرسمية للدولة العربية في زنجبار رغم أنهم ـ أي العرب ـ  كانوا أصحاب السلطة و القوة حينها ، الآن تكتب السواحيلية بــ  ( الحرف اللاتيني )  .

 كذلك ( اللغة الإيطالية  ) و خاصة في جزيرة صقلية ، وكذلك ( اللغة القبرصية اليونانية ) ، و ( اللغة الأسبانية )  المستخدمة في الجمهورية الأسبانية التي أسس بها العرب دولة الأندلس سابقا  ، كذلك تستخدم في بعض المستعمرات الإسبانية السابقة ، هذا وناهيك عن (  اللغة المالطية ) التي يتحدثها سكان ( جزيرة مالطا ) و التي تستطيع أنت يا من لا يُجيد التحدث بالمالطية أن تستمع للمالطي وهو يتحدث لغته وأنا على ثقة تامة أنك ستفهم ما يعنية دون كبير مشقة ، لأن لغتهم تحتوي نسبة عظيمة من الألفاظ العربية ، لذا يمكنك فهم ما يقوله عبر السياق العام لكلامهِ .

هذا بعض مما عند تلك اللغة القوية العظيمة الساحرة ، وهذا كله على سبيل المثال لا الحصر ، هذا جوابي لمن يعيب على اللغة العربية اقتباسها من اللغات الأجنبية اليوم ، وهو لا ينتقد (  حبًّا  ) للعربية ، و أنما تسفيها و تحقيرا ، وما ذلك إلا لجهله أو لخيانة أرادها ، أو تعصبا  فئويا .

فتدمير ثقافة أي  قوم ، و الغزو الثقافي له يمنح العدو السلطة على رقاب ذلك الشعب ، وبصراحة هذه الأمة أرهقت الصهاينة وأذنابهم فما استطاعوا نزع هويتها منها ليتمكنوا من دثرها لأن هويتها ترتكز في نقطتين : (  دينها  و لغتها  ) . فلله دُرُّ أمةٍ مثل هذه الأمة أحبتْ  لغتها و دينها ، حتى أنها صمدت كل هذا الصمود الجبار أمام كل هذه الأعاصير العاتية التي مزقت أمم و انتشلتها من ثقافاتها و قيمها لأجل كيان لقيط لا يوجد ألا في مخيلة التعساء ، كل ذلك لمحو هذه الأمة من الوجود لأنها تقف حجر عثر أمام ذلك الكيان .

و رغم أن الحال الذي نحن فيه اليوم كأمة ـ لا يرضينا نحن أبنائها الطامحون لأحياء مجدها ـ إلا أننا ـ ونحن بهذا الحال الضعيف ـ نشكل خطرا على ذلك الكيان .

فأقولها بكل صدق لأمتي ( لن تموتي فكاهلُ الأرض لا يقوى على حمل نعشكِ الجبار) أن اقتباس ( اللغة العربية )  ألفاظاً من لغة أخرى ليس دليل ضعف بل هو دليل مرونة و تطور و تلك سمة أتسمت بها كل اللغات عبر التاريخ الإنساني ، وهو ميزة جيدة ( ما لم ) يسبب اندثارا لتلك ( اللغة الأم ) أو يغلب على ألفاظها .

هم يقولون أن اللغة العربية ليست لغة علم ، عجبا لكلامهم !!  و الأغرب قول المتقول متحديا لمن يعشق العربية : ( أجلب لي مرادف تلفزيون بالعربية ) . و أنا أقول له متحديا لبلاهته : ( أجلب لي مرادف سُكْر بالإنجليزية ) .

أن المنطق ـ  لو كانوا للمنطق يعقلون ـ يقول ( أن لا لغة من لغة الأرض لا تستطيع احتواء العلم ) ، والدليل على ذلك هو الشاهد التاريخي في الحضارات الإنسانية من ( حضارة الإنكا )  إلى ( الحضارة المغولية ) مرورا بحضارات الشرق التي تعددت فيه اللغات و اختلفت  . ما من لغة لا تستطيع احتواء العلم ، فلم ينزل جبريل بالإنجليزية فقط  لتكون لغة علم ، ولا بالفرنسية لتكون لغة علم . أنما ( البشر هم من طوعوا اللغات ) لخدمة العلم فكانت خير خادم في كُلِّ الحضارات و الأمم  و الشعوب ، فدعكَ من هذا الهراء ، ولا يضير العربية أن يكون لفظة كمبيوتر أو تلفزيون ألفاظا مُعربة كما لم يضر الإنجليزية ـ من قبل ـ أن تكون كلمة سُكر وبرتقال مُغربة .

أني أقول لهؤلاء دعوكم من كل هذا الهراء ومن خُزعبلاتكم تلك ، وبدلا من أن تبحثوا عن شيء تُعلقون عليه فشلكم ، تحركوا وأنجزوا ، وأبدعوا ، فالإنسان هو من يصنع كل شيء في الحضارة سواء كان تُراث أو لغة أو ثقافة . هو من يُعلي قدر أمته أو يحط بها . ودعوكم من كل هذا التذمر . ولا تحاولوا إغواء الناس فكلامكم السخيف .

أنا لا أدافع عن هذه اللغة فهي أعظم من أن يُدافع عنها مُدافع ، فهي ليست في موضع ضعف ، أنما مقالتي هذه لأُنبه أولئك الذين يجهلون أنهم بما يقولون أنما يظهرون للناس جهلهم ويجعلون من أنفسهم موضع سخرية فهم لا ينظرون أبعد من أنوفهم ، وذلك الذي يسعى لأن يجعل من ( لغة الدارجة أو العامية ) لغة رسمية تُنشر بها المجلات والصُحف ، ويسعى بأن يهبط بالعقول بدل السعي للرقي بها بلغة راقية عذبه كاللغة العربية أنما بذلك يظهر ضعفه و انحدار قدره ، فاللغة العربية لغة للأذكياء الفطناء لكنها ليست بالصعبة على الناس العاديين لذا فإن مثل هذا الإنسان أنما يشهد على نفسه أنه أحقر منزلة من الإنسان البسيط العاميّ ، لكن كيف بلغ منازل السلطة ليرسم طريق أمته  ؟؟! سؤال يحتاج للكثير حتى يتم الإجابة عليه .

يقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ( تفقهوا قبل أن تُسوَّدوا ) والتفقه ليس في الدين وحده بل في كل فروع العلم ما أمكن منه ، لأن العلم ينير القلوب ويفتح البصيرة فيقود صاحبه إلى طريق الحق والحقيقة ، ويمضي في كل أموره عن بصيرة وعن بينة من أمره . فلا يستوي الأعمى  و البصير .

فالمُسفهين للغة العربية ثلاثة :

·   جاهل لا يقدر على هذه اللغة العظيمة ففندها ولجئ إلى اللغة العامية التي تناسب مستواه السوقي البسيط فأراد أن يفرضها كلغة لأهل الصفوة ، قال أبو العُميثل لأبي تمام منتقداً شِعْرَهُ : يا أبا تَمَّام لِمَّ تَقولُ مَا لا يُفهم ؟ فأجابهُ أبُو تَمَّام : لِمَّ لا تَفهم مَا يُقال ؟ .

·   وخائن أراد أن يعين الأعداء علينا بتفريق شملنا لأن اللغة هي أحد ركائز جمع شملنا كعرب ـ كما هو الحال في كُل الأمم ـ والأدهى أن من هؤلاء من هم في مواقع السلطة فقرروا أن يبثوا الجرائد باللهجة العامية وفرضها على الجميع كلغة أدب ، وهم أنفسهم في مؤتمراتهم الرسمية يتحدثون باللغات الأجنبية بلسان مفوه رغم أن دساتيرهم تقول أن ( اللغة العربية )  هي اللغة الرسمية للدولة  و أذا تحدث العربية التوى لسانه ولم يُفصح فهو لا يلوي جهدا للقضاء على اللغة .

·   وأخر يهرف بما لا يعرف ، وصَدَّقَ ـ  لجهله ـ  ما قيل له بأن ( سبب تخلف )  أمتنا هي ( لغتها و ديننا ) وهذا مجرد واحد من أولئك الببغاوات المصفقة .

وليعلم الجاهلون أن سعي العدو لتدمير لغتنا العربية أنما ليضرب به عصفوران بحجر واحد ، فإن اندثرت العربية ـ وأقولها بكل ثقة أن ذلك لن يحدث أبدا ـ فسيصعُب قراءة القرآن على أتباع الإسلام مثلما حدث في ديانات أخرى مثل اليهودية والنصرانية . ليخرج لنا الصهاينة بعد ذلك أحبارا يكتبون لنا القرآن بأمانيهم ، فيغيرون الكلم عن موضعه حُباً لأسيادهم . وذلك لن يحدث لأن الله تعالى قال :{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }[1]
وأخيرا ..

يقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب : ( أما بعد   فتفقهوا في السُنة ، و تفقهوا في العربية ، وأعربُوا القرآن فإنه عَـربيّ ) .

أنها لغة خير الأنبياء ، و لغة خير الكتب المقدسة ، و لغة الشعب الذي ناضل من أجل أن يرفع راية الله عاليا عبر تاريخهِ ، و تحمَّل و مازال يتحمل الكثير من الويلات في سبيل ذلك ، و ستبقى  ( العربية )  صامدة  شامخة  مادام أن الله تكفل بحفظ  كتابه الذي  نزل  بلسان عربي  مبين .



[1] - سورة الحجر9