الأحد، 5 يونيو 2011

ثـقـافـة العـطاء




" أزرع جميلاً ولو في غير موضعهِ 
فلن يضيع جميل أينما زُرعا
إنَّ الجميل و إن طال الزمان بهِ 
 فليس يحصدهُ إلاَّ الذي زرعا "

(من الشعر العربي )







ثقافة العطاء متى ما كانت منتشرة في مجتمع ما دل ذلك على ( الرقي الفكري ) و ( الرقي الإنساني )  لذلك المجتمع  :

وأحسن شيء في الورى وجهُ مُحسنٍ
و  أيمن  كفٍّ  فيهمُ  كفُّ    مُنعِمِ

ولا يقتصر العطاء على بذل المال وإنما أيضا على ( بذل الجهد ) ، و في نظري العطاء يكون على عدة وجوه :
الأول :   بذل المال لمساعدة أبناء الوطن ، فالأقربون أولى بالمعروف ، وذلك حفظا للمودة ، ووصلا للرحم ، وتعميقا للمحبة ، تكون البداية من قرابة الدم ثم قرابة المودة ، ثم قرابة الجوار ثم الأبعد فالأبعد .

إذا المال لم ينفع صديقاً ولم يصب
قريبا  ،  و لم يُجبر به حال مُعْدمِ

فعُقْباهُ  أن  تحتازهُ  كفُّ  وارثٍ
وللباخل المورُوثِ عُقبى التندُّمِ

الثاني :   بذل المال لأبناء الوطن القومي وكذلك أبناء العقيدة في الأقطار الأخرى . كثير من أقطارنا العربية تحتاج لدعم ( قطاع التعليم ) من مدارس و جامعات ، في زيارة لي لأحدى الدول العربية كنت أرى جامعات عريقة تفتقر لقاعات محاضرات ، وكذلك في بعض الدول العربية ـ وأخص ( جزر القمر ) تحديدا ، ذلك القطر العربي المنسي ـ الأطفال تجدهم مقبلين على المدارس وعلى التعليم بشغف وكذلك مدارس تحفيظ القرآن ولكن إمكانيات الحكومة جدا ضعيفة ، ولقد رأينا مساعي الرئيس القمري (  أحمد عبدالله سامبي ) في تأكيد الانتماء العربي لجزر القمر ، حيث قام بزيارات مكثفة لترسيخ العلاقات مع الأقطار العربية ، فالرئيس ( سامبي ) متحدث فصيح بالعربية ولقد عاش جزءا من حياته في طلب العلم في مكة المكرمة ، وهو مؤمن بعروبة جزر القمر ، الأمر جدا محزن ، حيث أننا نرى أثرياء العرب يتشدقون بتبرعاتهم للجامعات الأمريكية والأوروبية لأجل أن يتحدث الغرب عن كرمهم ، بينما نحن أحق بهذه الأموال . وفي الحقيقة كثيرا ما كنا نسمع من بعض الغربيين تهكمهم وسخريتهم من سذاجة هؤلاء الأثرياء في تبرعاتهم ، فهم لا يرون فيها إلا تبعية و سذاجة  و ليس كرما .

الثالث :   بذل الجهد لصالح الأقربين وكذلك أبناء الوطن وكذلك أبناء القومية والعقيدة ، وأقصد بهذا أن يكون البذل بالجهد عبر المساهمة الفاعلة للإنسان للرقي بوطنه وأمته وأهله وذلك من باب ( حب لأخيك ما تحب لنفسك ) ، ومن الأمثلة البسيطة على بذل الجهد :

·       المحافظة على البيئة وعدم الإسراف في موارد الوطن ( مثلا الماء والكهرباء ، و النباتات و غيرها ) .
·   المحافظة على المرفقات العامة بصفتها ملك لك كمواطن منتفع منها ، لأنها في الحقيقة ليست ملك للحكومة وإنما ملك لك .
·   المساهمة في نشر المعرفة والتوعية الثقافية ، ولا أعني هنا عبر الندوات والمحاضرات والمحافل الثقافية فقط ، وإنما أيضا عبر الجلسات الودية العادية أو العائلية وذلك عبر نقل المعلومة الصحيحة و بالأسلوب المناسب للكل فئة حسب ثقافتها وحسب سنها ، و بأسلوب شيق تدفعهم لطلب المزيد من المعرفة  .
·   المساهمة في أنشطة تطوعية في مجالات شتى ، مثل التعليم أو حملات النظافة أو التوعية أو الأخذ بيد المبدعين في المجالات العلمية المختلفة .
·   عبر أعطاء الصورة الجميلة عن وطنه ، وعبر مد  يد العون بالجهد أو بالكلمة الطيبة والشفاعة الحسنة للآخرين .


كيف يمكننا أن نساهم كمواطنين بسطاء ؟

قد يرى البعض أنني شخص حالم ، لكن قبل أن تحكموا في اقتراحي أقرؤوه بتأني ستجدون أنه ممكن .

لو أقمنا ( صناديق )  بين كل عائلة أو مجموعة معارف أو أصدقاء ، وتبرع كل شخص بقيمة ( دولار واحد ) في الشهر ، سيكون عندنا من كل عشرة أشخاص عشرة دولارات ، وهكذا عند كل عشرة ، ستجد أننا قد نصل إلى ألف أو ألفين دولار في الشهر ، تقوم كل مجموعة بإرسال هذا المال كتبرع لأحدى الجمعيات الخيرية أو الثقافية الموثوقة ـ وهي كثيرة ولله الحمد ـ سواء داخل حدود الوطن أو في الأقطار العربية الأخرى .

صدقني ستكون جدا راضٍ عن نفسك حين تجد أن ذلك ( الدولار )  الوحيد قد أنتفع به طفل أستطاع أخيرا أن يتعلم بدلا أن يعمل وهو في سن صغير ، أو أن تم استخدامه لافتتاح مركز لمحو الأمية .أيضا يمكننا ـ فيما لو توفرت القدرة ـ أن نعمل على أيجاد ( وقف )  لأجل عمل معين ، مثلا من خلال تجميع هذه التبرعات وشراء بناية ( عمارة ) يتم تأجيرها يذهب ثمن أجارها لصالح جمعية خيرية للأيتام أو لمركز لمحو الأمية أو لرعاية أطفال الشوارع أو الفقراء سواء لتعليمهم أو لإطعامهم.

أو تجميع هذه الأموال لإنشاء ( مشاريع )  لصالح أسر فقيرة ، تكون مصدر دخل لهم بدلا من أن تطلب الناس اللقمة ، فمثلا أن كنت تعرف عائلة فقيرة في الحي الذي تقطنهُ أو الأحياء المجاورة أو حتى المدينة المجاورة ، فتقوموا مثلا بجمع تبرعات لإنشاء محل خياطة أو بيع مواد غذائية أو صناعات تقليدية أو أي مشروع بسيط ممكن للأب أو للأم في تلك الأسرة  أن تحفظ ماء وجههم بها من سؤال الناس ، وتكون بهذا قد ( سددت ثغرة ) في بناء المجتمع ، فأنت بهذا تكون قد أوجدت لنفسك صدقة جارية سترى ـ بعزة الله ـ أثرها في رزقك ومالك وصحتك وأولادك ، وأنت حين تحث الناس على التبرع لمثل هذه الأشياء ومساعدة الآخرين فأنت أيضا تأخذ الأجر من الله مقابل ما تدل الناس عليه من خير .
أنني ـ و أوردها هنا كمثال لا للتشدق ـ وضعت ( صندوق صغير )  في البيت عندي ، وألزمت أهلي حتى أخواني الصغار ، أن يتبرعوا ( كل أسبوع  ) بأي مبلغ ممكن حتى لو كان زهيدا ، فعلى كل واحد منهم أن يضع ما قدره الله عليه كل أسبوع وبدون علم الآخرين ، أي ( أن يكون ما تبرع به بينه وبين ربه فقط ) ، ثم أنني أقوم بفتحها ( كل نهاية شهر ) و أوجهها لجهات هي محتاجة للتبرع مثلا :  بناء مساجد أو طباعة مصاحف ، أو جمعيات رعاية الأسر الفقيرة أو جمعيات رعاية الأيتام ، وهكذا .

ورغم أن المبالغ تكون ( بسيطة ) إلا أن لو كل شخص قام بهذا في أسرته فإن هذه المبالغ البسيطة تجتمع لتصبح ذات نفع فكما تقول الحكمة العربية : ( الذود للذود إبل ) وقطرة مع قطرة تسيل بها وديان .

ومن دلالات وجود ثقافة العطاء في مجتمع ما هو ( تبادل العطايا )  بين الجيران والأهل المتجاورين ، مثل ( تبادل الأكل المطبوخ في البيت ) ـ حتى لو أن  تعطي جارك كمية بسيطة ـ وذلك من باب ( تعميق المودة والألفة بين الناس ) ، ولله الحمد هذا أمر يبعث على السعادة حين ترى الناس حولك هكذا ، وأني أرى الناس يجتمعون ليتعاونوا لجمع المال للمريض الذي يحتاج للعلاج ولا يجد المال له ، قدر جهدهم .

وكذلك في رمضان كيف يتعاضدون كل حسب ما يملك لا يحقرون شيئا من العطاء مهما كان بسيطا ، وكذلك أيام الأعياد وعند بدايات العام المدرسي وهكذا . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا سألتم الحوائج فاسألوا العرب"[1]. يقول الشيخ سالم بن حمود السيابي ـ رحمه الله ـ وفيه : (  لأنها ـ أي العرب ـ  تعظم لثلاث خصال : كرم أحسابها ، واستحياء بعضها من بعض ، والمواساة لله ، أي لأنها خصت بهذا دون باقي الأمم ) .

و أخيرا ...

أن ديننا يحث على ( ثقافة العطاء ) ، و ( العطاء ) يشبه تعاون الناس في تشييد بناء ما ، فإن صار كل شخص يحمل طوبة ليضعها بشكل صحيح ويأتي أخر بنفس الشيء وهكذا فإننا في المحصلة سنصل إلى ( بناء قوي ) و نجد أنفسنا قد أنجزناه في وقت قياسي . نحن أمته تحمل ( الرفق و الرحمة ) في قلبها ، والعطاء دليل عظيم على الرحمة والرفق .

أن النبتة أصلها بذرة ، ثم تراها تكبر لتغدو شجرة ذات ثمر يانع ، ثم الثمرة تعطي بذرة أخرى وهكذا حتى تغدو غابة ذات ظل وثمر . وهذا ما ننشده بإذن الله . وتذكر أن تعطي (  دولارا أو نصف دولار ) في الشهر خير من أن ( لا تعطي )  شيئا ، فلا تحقرن من المعروف شيء .


دمتم  بحـوراً  للخـيـر  و العطاء .





[1] - رواه ابن مسعود رضي الله عنه .