" ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما
انقطعت ،
كانوا إذا مدّوها أرخيتها ، وإذا أرخوها مددتها
".
الخليفة الأموي معاوية بن أبي
سفيان .
نعيش في هذه الحياة
في مجتمع ، و مهما كانت نوع شخصيتنا أكانت اجتماعية أم لا ، فأنه لابد لنا من أن
تربطنا مشاعر ما مع البشر ، ولابد أن يكون في حياتنا أشخاص لهم منزلة طيبة في
قلوبنا مثل الوالدين أو الأخوة أو الأصدقاء أو الأبناء أو الزوج أو الزوجة .. إلخ
.
لكن الحياة لا تمضي
بصفاء دوما ، فلابد أن يعكر صفوها كدر ما ، فهذا من المسلمات المفروغ منها ، لكن
هل نقف عند هذه المسلمات ؟؟
تمضي الأيام ونحن
نأمن غوائلها ، وفجأة تكر علينا بمصائبها ، فجأة تجد نفسك قد سلبك الموت شخص عزيز
غالٍ ، والموت زلزال يهز كيان البشر ، فيعمل الحزن الذي يملأ قلبنا حينئذ على إعادة شريط الذكريات مع ذلك
الإنسان الذي فقدناه ، كل الذكريات : الخير والشر ، السعادة والحزن ، الخصام
والصلح ، ثم نتوقف كثيرا ـ بغير إرادة منا ـ مع تلك اللحظات التي خاصمنا فيها ذلك
الشخص وخاصة أن كان غال على قلبنا ، و حتى الذي نحمل له مشاعر عادية ، و أحيانا
كثيرة حتى من كنا نحمل له العداء . نتوقف و نقول بندم حارق :
ليتنا لم نضيع العمر
في خصام ،
ليتنا لم نتخاصم ولا
لحظة واحدة ،
من كان يعلم أنه
سيرحل عنا بهذه السرعة ،
لو كنت أعلم أن حياته
قصيرة هكذا لما خاصمته ولا غضبت منه ،
ليته يعود للحياة لن
أخاصمه مهما فعل ،
اللهم شغبه ولا فقده
....
لكن وسط عجاج الحزن
والألم والندم تبقى حقيقة واحدة هي الحاضرة ، وهي أنه قد رحل عن عالمنا ، وأنه لات
حين مندم .
لنأخذ وقفت مع أنفسنا
، لحظات صادقة نتساءل فيها :
كم من عمرنا يضيع في
الخصام مع من نحب ؟
ماذا نستفيد من تلك
العزة التي تأخذنا بالإثم في الخصام ؟؟
ماذا حققنا من كل تلك
الأيام التي ضاعت في تلك السخافات ؟
ألم يكن في وسعنا حقا
تجاوز تلك الخصومات ؟
ألم يكن من الممكن أن
نغضب ولكن دون أن نتخاصم وتحدث قطيعة بيننا ؟
ألم يكن يوم واحد أو
ساعات كافيه حتى يحاول أحدنا أن يُسكت غضبه ، لتعود بعد ذلك المياه إلى مجاريها ؟
ماذا كان سيحدث لو
أننا حاولنا بشجاعة أن نتفادى الغضب ، وعدنا لبعضنا لنقول حبا في الله : إنني أسف
؟
ألم يكن كثير من ذلك
العتاب وتلك الكلمات التي تثير حنق الأخر ألم نكن قادرين حقا على تجاوزها وتفاديها
حتى لا نزيد اشتعال الموقف و احتقانه ؟
إذا أغضبك من إنسان
صفة أفلا يمكنك أن تتجاوزها لتنظر لصفة أخرى فيه تعجبك ؟
ألم تفكر في لحظة أنه
: ربما يكون هذا الإنسان أيضا يكره مني صفات قد لا أنتبه لها أنا ؟
ألم تفكر أنه : ربما
أن هذا الإنسان يتجاوز عن بعض ذنوبي في حقه ، أفلا أتجاوز عن ذنوبه ؟
ألم تفكر في يوم أن
تصفح وتعفو حباً في الله ، فتكظم غيظك ، ليبدلك الله خيرا من هذا ؟
هل تعرف حقا ما هو
الصفح والعفو ؟
هل تعتقد أنك قد صفحت
عن ذنب إنسان أخطأ في حقك ، وأنت مستمر في كل فرصة تذكر ما فعله بك ؟
أن فعلت هذا فدعني أقولها
لك بصراحة : أنت لم تسامحه .
الحقيقة كل هذا ممكن
أن توفرت رغبة الإنسان ، كل هذا ممكن لأن الله كَرَم بني البشر بالعقل فميزه عن
الحيوان به ، لذا هو في الأصل سيد نفسه ، وسيد مشاعره .
أن من يعتقد أن الصفح
والعفو سذاجة ، فهو شخص غبي ، ولا يثق في الثواب من الله أبدا ، فمن فعل شيء لله
عوضه الله .
و فاعل الخير لا يعدم
جوازيه
لا يذهب العُرف بين الله والناسِ
وليس الشجاعة أن تغضب
، فأكثر الناس يغضبون و ينجرون خلف غضبهم
، لكن الشجاعة الحقيقية تكمن في مقدرتنا على امتصاص غضبنا ، وتمالك أعصابنا ، ومن
الشجاعة أيضا أن تعترف بخطئك ، وأن تملك شجاعة على الاعتذار . قال صلَّ الله عليه
وسلم : ( ليس الشديد بالصرع إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ).
إذا كرهت من حِبّك خُلق
، رضيت منه غيره ، وأجعل ولو خيط صغير يربطك بأحبتك ، ليشفع لهم عندك ، مثلا ليشفع
حبك لأولادك لتصفح عن زوجتك ، وحاول أن تحيى معها محبا ، وليشفع حبكِ لأولادكِ
لتصفحي عن زوجكِ ، لتكوني له محبةً ، وليشفع حبك لوالديك عندك لتصفح عن شقيقك ،
وليشفع حبك لله عندك لتصفح عن صديقك وجارك وزميلك ، وهكذا .
و إذا الحبيب أتى بذنب واحد
جاءت محاسنه بألف شفيع
أنت الوحيد القادر
على أن تبقى مُحِباً ، وأن تصفح عن الأخر ، ولو أن كل منّا فكر هكذا ، لوجدنا أن
الصفح صفة غالبة في حياتنا ، ونحن أحق بها كمسلمين لأننا أمة الصفح والتسامح ،
يقول المولى جل سبحانه في علاه :{ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء
وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ
يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }[1] . أننا
نعيب على ملوكنا ضعف سياساتهم وتدبيرهم ، لكن هل وقفت للحظة للتدبر سياستك في بيتك
، وفي مجتمعك ، ومع من حولك ؟؟
الحياة كلها تتطلب
العمل بالحكمة والسياسة "والحكمة
ضالة المؤمن" ، لا تخدع نفسك بأنك كامل ، ولا تخدع نفسك بأنك حقير أو ناقص ،
بل كون حكيما ، وعين الحكمة الوسطية ، أنقد نفسك نقدا بناءً لترتقي بها ، وسُس حياتك ، لأنك فيها الراعي
والرعية .
وأخيرا ..
نصيحة محب مجرب ، لا تسمح
أن يأتي عليك يوم تندم فيه على خصام حبيب ، فتبحث عنه فلا تجده ، و قد لات حين
مندم .
لا تطلب أن يكون الآخرين
ملائكة بينما أنت لست كذلك .
قف ساعة تأمل صادقة
لما حولك وستعرف الطريق ، فالتأمل عبادة الأنبياء .
قال نبيكم صلَّ الله
عليه وسلم : ( ألا أخبركم بأفضل من درجة
الصيام والصدقة والصلاة " أي درجة الصيام النافلة وصدقة نافلة والصلاة
النافلة " ، فقال أبو الدرداء : قلنا : بلى يا رسول الله . قال : إصلاح ذات البين ) .
فتذكر أن "خيرهما الذي يبدأ بالسلام" .
وتذكر أن من صفات
المنافق " إذا خاصم فجر " أي تجاوز الحد في الخصام والقطيعة والكلام البذيء
وغيره من الأمور التي تزيد الموقف سوء .